توفيق الجبالي.. عودة إلى كلام الليل

09 مايو 2014
مشهد من "كلام الليل صفر فاصل"
+ الخط -
عندما نتحدث عن توفيق الجبالي نحتاج إلى كثير من التروي. لن يسعفنا رشاش الفكرة لديه لالتقاط أنفاسنا واللحاق بكل المعاني المتسربة من الأصوات والأضواء والهمزات والإشارات.. والصمت المطبق حتى.

وسنحتاج هذه المرة بالخصوص إلى كل الأسلحة الممكنة لمحاولة تفكيك "كلام الليل صفر فاصل"، عمله الجديد الذي يعرض منذ أشهر بشكل مستمر في فضاء "التياترو" الذي أسسه الجبالي نفسه واستمات في الدفاع عنه فضاءً مفتوحاً للشباب المسرحي بالخصوص. لكن هذا ليس موضوعنا الآن. فلنذهب إلى المسرحية.

هناك "كلام الليل" وهناك "صفر فاصل" وهناك "المشرحة".

أعتقد انني شاهدت سلسلة "كلام الليل" منذ بدايتها سنة 1990. عُرضت تسع حلقات منها ثم عادت بعد خمس سنوات لتعرض حلقتها العاشرة وتتوقف، فيصيبنا الإحباط قبل أن تعرض "كلام الليل 11" سنة 2004.

لم تكن "كلام الليل" في البداية، ولا حتى في النهاية، مسرحية كلاسيكية في عرضها أو تناولها أو مواضيعها. كانت أقرب ما يكون إلى "المقهى المسرح"، تتمازج فيها الأشكال الفنية المختلفة وتقدّم كل حلقة من حلقاتها أسماء جديدة، إضافة الى "العصابة الفارة" التي كانت تذهلنا في كل مرة.

كانت "كلام الليل" متنفساً سياسياً واجتماعياً قبل أن تكون متنفساً فنياً، بالنسبة إلى كثيرين منا. كان توفيق الجبالي "يتجرأ" على كل شيء ويسخر من كل شيء، لكنه كان في نفس الوقت ينسج لغة مسرحية جديدة ومعجماً "جبالياً" مبتكراً، يعيد صياغة اليومي المبتذل ويحوّله إلى تحفة فنية فائقة الفكرة والمعاني.

كلما توقفت "كلام الليل" وقتها، أصابنا شيء من الفراغ. وكنا نلوذ بالعودة إلى الكتاب الذي أصدره ويتضمّن كل الأعمال بالعامية التونسية، لنستعيد ما أمكن من تلك المتعة.

بتوقفها عن العرض، لكأن المرآة التي تعيد إلينا صورنا الحقيقية انكسرت. كنا نجبن عندما كان يجرؤ.

هذا عن "كلام الليل" بشكل متسرع جداً؛ كلمات مجنونة، كلمات متخفية، كلمات غاضبة، هذيان..

"الصفر فاصل"؟

وصف أطلقه المنتصرون على المهزومين ـ من اليسار في الغالب ـ بعد الانتخابات الماضية.

من البداية، وقبل أن تبدأ المسرحية، يحذّرنا بأن لا علاقة لصفره بصفرهم. ما الحكاية إذن؟

هنا ندخل المشرحة.

عروسان بلباس الزفاف يجران قتيلاً/شهيداً، في الغالب، في كل الاتجاهات ولا يعرفان في أي وضعية يضعانه: منذ البداية طرح علينا توفيق الجبالي أكثر الأسئلة حرقة: ما أنتم فاعلون بقتلاكم؟ ماذا نفعل الآن؟

في المشرحة، منزلة بين الحياة والقبر، وضعية سانحة للعودة إلى الحياة بلا خوف من أي سلطة كانت، مجرّدة من كل خوف ومن كل حسابات ممكنة، مجرّدة ومتجرّدة.. هناك تلتقي ثلاث جثث (توفيق الجبالي ورؤوف بن عمر ونوفل عزارة) بلا ملامح ولا أسماء، لتعود بنا إلى أسئلة الثورة الموجعة: ما القناصة؟ (قتلة الشهداء المجهولين) ـ لم تكن الأحكام القضائية قد صدرت بعد! ما الثورة؟ ما الساسة؟ ما الدعاة؟ ما الفتاوى؟ ما اليمين، ما اليسار؟ إلى أين نمضي؟

وانتبهوا، لم نكن نبكي أو نتجهّم ونحن نسمع ونرى ما نرى. كنا كعادتنا مع "كلام الليل" نضحك.

نضحك منا، من أوضاعنا، ونضحك لأن الجبالي قادر أن يضحكنا. أما الحيرة فتستقبلنا حال خروجنا من الفضاء. وقتها، كعادتنا مع الجبالي، نعود بملامح ما تبقّى في الذاكرة من المسرحية وبما ضربنا به من "سياط" تجلد هروبنا المستمر من واقعنا الرديء.

لم ينس الجبالي وهو في قلب الـ"مشرحة" أن يتذكر أحد أفراد العصابة الذين غادرونا وغادروا المشرحة، محمود الأرناؤوط. كان نجاحاً تقنياً باهراً أدخل الأرناؤوط إلى صميم لعبة الأسئلة والسخرية، كما لو أنه حاضر.

بعد "كلام الليل 11"، عاد الجبالي إلى "كلام الليل صفر فاصل" ليتحاشى صفر الفراغ المطلق. ولكنها عودة إلى البداية الأولى أو قريباً منها. فهل نفهم أنها إمكانية البناء من جديد، أم نفهم أنها العودة إلى المربع الأول؟

لن يقول الجبالي شيئا كعادته إلا ما قاله عند انطلاق الموسم الثقافي هذا العام، وأمضاه:

أيها الناس، أين المفرّ؟
المسرح أمامكم.. والخصم وراءكم..
لا شيء يذكر إلا بما تيسّر
مسيرات واحتفالات واغتيالات واعتصامات ومهرجانات
وكل ما هو آتٍ.. فات


مواعيد مؤجلة... مخلوقات مؤقتة
سجناء البيض
سجناء الصورة
سجناء التفكير... سجناء التكفير
شعارات فقيرة
"نشيد وطني" لبني وطني نزعت عنه الشمس بريق الألوان
سنة فواكه جافة..
كالحة بالحة
وإذن
أيها الناس أين المفرّ؟
المسرح أمامكم
والخصم وراءكم
وليس لكم والله إلا الفن والعمر
ابتكارات كثيرة في متناولكم: "كاياس"، "كلمة لا"، "مسألة حياة"،
"ستوديو 9"، "الهيئة"
إعادات لأعمال تميزت: من "الصفر فاصل"، "ليزيستراتا" إلى "بورقيبة"،
مسرح جديد حر وبديع
فتعالوا نقضي ما تيسّر مما تحمد متعتاه
وما عسر بما لا تحمرّ له وجنتاه.

المساهمون