ليس التأريخ مهنة الكاتب، لكنه مهمته. فبحسب الروائي النيجيري تشنوا أتشيبي (1930- 2013)، كان مثل هذا الاكتشاف بمثابة واجب أخذه صاحب "أشياء تتداعى" على عاتقه. يبيّن أتشيبي في واحد من حواراته أنه "إلى وقت قريب لم أكن أفهم المثل العظيم: "إلى أن تجد الأسود مؤرخيها، سيمجد تاريخ الصيد دائماً الصياد". وحين أدركت مغزاه، كان عليّ أن أكون كاتباً، عندئذٍ تحتم عليّ أن أكون هذا المورخ".
صدرت رواية "أشياء تتداعى" عام 1958، وقدّمها إلى العربية المترجم عبد السلام إبراهيم، بطبعة عن "الهيئة العامة لقصور الثقافة". وفيها، يقدم أتشيبي ردّه الأدبي على كتّاب من مثل الروائي البولندي جوزيف كونراد صاحب "قلب الظلمات" الذي وصفه أتشيبي بالـ "عنصرية".
يستخدم مؤلف "ابن الشعب" حكايات قبائل الـ "إيبو" النيجيرية لبناء رواية تاريخية، ويستحضر مجموعة من الأحداث التي اتخذت مكاناً لها في القرن التاسع عشر، قبيل دخول الاستعمار البريطاني وبداية الحملات التبشيرية.
ويرسم أتشيبي في الرواية صورة مجتمع الـ "إيبو" المتحول، الذي كان يتألف من قبائل لديها تراث من العادات والأساطير والطقوس، قبل أن ينهال عليها الرجل الأبيض بأيدولوجيته وقيمه.
يحاول أتشيبي إعادة الاعتبار لمنطقة فريدة في التاريخ الإنساني، كثيراً ما تعرضت للتشويه وسوء الفهم. ويزاوج بين روح قبائل الـ "إيبو" واللغة الإنجليزية التى يكتب بها. ويجسد أوكونكو في الرواية الشخصية المحوريّة في الرواية روح قبائل الـ "إيبو".
إنه مغرم بالقتال والمصارعة والحصول على الألقاب في قريته أموفيا. يعاند طقوس "أسبوع السلام المقدس" التي يمنع فيها التعدي على أحد، ويضرب زوجته ليطلق عليه أهل القرية لقب "ننزا" الطائر الذي نسي نفسه، بعد أن تناول وجبة دسمة، وتحدى معبوده.
يكتشف القارئ أنّ عدائية أكونكو هذه ليست إلا نتيجة الرعب الداخلي من أن يلقى هو نفسه مصير والده أنوكا الكسول والفقير والمجرد من الألقاب. تشاء الأحداث أن يقتل أكونكو طفلاً ويُنفى من القبيلة لسبعة أعوام، وتتزامن عودته مع وصول الحملات التبشيرية التي يرى فيها مجرد "زمرة مخنثين" لا بد من طردهم وإقناع سادة القرية بضرورة الحرب.
يرسم أتشيبي عالم القبيلة بمفرداته الخاصة، فتحضر "الإيجووجو"، أي الأرواح التسعة المقنّعة التي تتحدث نيابة عن أسلاف القبيلة. ويصف الكاتب الـ "إيلو" وهو ملعب القرية ومكان قرع الطبول والرقص. كل هذه التفاصيل وغيرها من يوميات القبيلة الأفريقية تكشف عن الأوهام التي لدى المتلقي عن "الآخر" الأفريقي، من خلال إعطاء صوت لهذا "الآخر".
في الجزء الثاني من الرواية يظهر الرجل الأبيض ممتطياً الحصان الحديدي، الدرّاجة، في قبيلة "آبامي". يخبر العرّاف أهل القبيلة أن هذا الرجل سيهدم كل شيء، فيقتلونه ويقيدون حصانه الحديدي إلى شجرتهم المقدسة.
في هذه الأثناء، تصل الإرساليات التبشيرية إلى أموفيا، وتدعوهم إلى ترك المعتقدات الوثنية وتحدثهم عن الثالوث المقدس. تجتذب هذه الإرساليات فئات منبوذة من أبناء القبائل، وتعترف بهم، لكن القبيلة لا تكترث لكل هذا، فمفهوم الحرب المقدسة ليس من ضمن ما يعتقدون به، على العكس من الإرساليات التي شنّ فيها القسيس جيمس سميث حرباً مقدسة متطرفة ضد القبيلة.
خمس روايات ومجموعة قصصية وأخرى شعرية صدرت للكاتب، كان فيها حريصاً على أن يكون صوت أفريقيا المتجول والأعلى من تمثيلات الأدب الأوروبي للقارة، تلك المنطقة التي تعرضت للكثير من الغبن. صحيح أنه كتب باللغة الإنجليزية، فقد قال مرّة "لقد أخضع التاريخ حنجرتنا"، لكن لغة المستعمر هي لغة شكسيبر أيضاً التي لولاها لما أتيح للعمل أن يُقرأ وينتشر طيلة العقود الماضية.