ذاكرة الترجمة

10 فبراير 2020
(عمل نحتي للفنان الألماني أنسلم كيفر)
+ الخط -

تشتغل الذاكرة باستمرار في معيشنا اليومي، فنحن لا نكاد نتحرَّك أو نتواصل في العالم مع سوانا إلا عَبرَها، نظراً لاحتفاظها لنا بين ثناياها بالقِيم والتجارب والأذواق، ولما تختزنه من أحلام، حتى لكأنها قاعدة بيانات. وهذا يَعني أنّ كلَّ تفعيل لها هو تشغيل لآلة مواجهةِ النسيان ومقاومتِه، لِما يتضمَّنه الأخيرُ من تهديد لوجود الإنسان. وضمن هذا الفهم، يُمكننا أن نتمثَّل النضال المرير الذي يخوضه الفلسطينيون - المتمسكون بالذاكرة التي تربطهم بأرضهم - مع سياسة الكيان الصهيوني الغاصب، الذي يسعى بكل الوسائل إلى إبطال ذاكرتِهم بطمسها بالنسيان عبر محو المعالِم وتزييف التاريخ.

قد يُفهَم من هذا الكلام أن الذاكرة تقتصر على البشر وحدَهم، لكن الواقع يُؤكِّد أن الحيوانات لديها ذاكرة لا تقلّ قوة وحدّة عن ذاكرة البشر، إلى درجة أنه يُتمثَّل بذاكرة بعضها كالفيلة، التي صارت مضرب الأمثال في هذا الباب.

تُنبِّهنا الذاكرة إلى هويَّتنا الخاصة، لأنها تُبرز لنا اختلافنا عن غيرنا ثقافياً بالدرجة الأولى، وجليّ أن وسائل اطلاعنا على أشكال هذا الاختلاف تتنوّع، ولعلّ الكتابةَ أيْسَرُها ممثَّلةً في الكتب الدينية والفكرية والاجتماعية والأدبية وغيرها. وبما أنّنا لا يتيسّر لنا سوى أن نتقن بعضاً من لغات العالَم، فإنّ وساطةَ الترجمة هي سبيلُ اطلاعنا على تلك الثقافات الأجنبية، التي تتعدَّد أسباب تطلُّعنا إلى ما لديها من خبرات وعلوم وفنون وفلسفة وغيرها.

لقد أفلح العِلم - في مجال الإعلاميات - ومع التقدّم التكنولوجي المتسارع الذي يشهده العالَم، يوماً تلو آخر، في أن يبتكر تطبيقات للترجمة الآلية في الحواسيب والهواتف الذكية، أصبحت تُعرَف بذاكرة الترجمة، التي هي في الأساس قاعدة بيانات صغيرة أو كبيرة تخزّن المعلومات، التي تتمثَّل في أجزاء من نصوص سبق للمترجِم أنْ ترجمَها، وأنْ سُجِّلتْ لديه في قاعدة البيانات، وتُقترَح عليه لاحِقاً عند الترجمة؛ توحيداً لعباراته واصطلاحاته، وادِّخاراً للوقت.

إن هذه البرامج والتطبيقات لا تفتأ تتطوّر ويُرتَقى بها لتغدو أكثر كفاءة ونجاعة، وفي متناول مرتادي الشبكة العنكبوتية أيضاً، ليكون بِوسع المرء أن يتوسَّل بها في قراءة رسائل إدارية، أو مقالات متنوعة، أو تقارير، أو غيرها، دون حاجة إلى أنْ يستعين بمترجم رسمي.

ويبدو أن أبرزَ ذاكرة للترجمة مجانية هي ما طرحته شركة غوغل، وتُنافسُها حالياً شركة أمازون، ويُنتظَر ظهور برامج وتطبيقات أخرى قريباً، بعدما اعتزمتْ دُوَل الْبريكس Brics - البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، بعد تحالفِها الاقتصادي - أنْ تنشئ شبكتها العنكبوتية، التي يُفترَض فيها أن تستقل عن الهيمنة الأميركية.

لكن هل من سبيل إلى الحديث عن ذاكرة ضمن الترجمة الأدبية؟ للإجابة عن هذا السؤال لا مناص من التذكير بأن الكتابة الأدبية، بالإضافة إلى ارتكازها على الخيال مادَّةً، تستنجد بالماضي وتوظِّفه بأحداثه العامّة، وخصوصاً التاريخ، الذي تَعمَد إلى استلهامه والترويج له خدمة للهوية عبر حكايات متنوعة، كما كان الشأن مع روايات جرجي زيدان مثلاً. كذلك تلجأ الكتابة إلى استحضار الحياة الخاصة في تحرير السيرة الذاتية، لتكون تلك الكتابة ذاكرة لمعيش يغني التجربة الإنسانية شأنَ بيوغرافية طه حسين "الأيام".

وإذا كانت للنص الأدبي ذاكرةٌ بالضرورة، فضروري أنْ تكون للترجمة بدورها ذاكرة. ويتهيَّأ لي أنّ النَّص الأصل يغدو في الواقع ذاكرةً لترجَمتِه، لأن الأخيرة تتفرَّع عنه، فهي صورة له، وهي تقدِّمه لنا وتُذكِّرنا به أصلاً في كل لحظة، وبأنها لن تستطيع أن تحلَّ مكانَه، نظراً لكونها تأويلاً له فحسب، أي أنها مجرَّد فهم لأصلها، على الرغم من تحرّيها في أن تُبدع نصاً يُضاهي أصله في حال عجزه عن التفوق عليه.

المساهمون