منذ عامين، في ربيع 2016، أثناء احتلال الميادين لمدّة ثلاثة أشهر، كان بالإمكان أن نقرأ على الجدران الباريسية "فرنسا، نبيذها، أجبانها، ثوراتها". كانت في ذلك الوقت علامة متفائلة، لأنه إن كانت هناك مظاهرات متماسكة ضد قانون يهدف إلى لبرلة العمل، وحفنة من التظاهرات "الشرسة"، فإنها لم تصل إلى أن تكون أعمال شغب، وهي أقل من تمرّد.
اليوم وصلنا إلى هنا؛ حُرق مكتب بريد، قرية في "الأرديش"1 من ألفَي نسمة ثارت حرفياً، ومرّ على الشانزيليزيه في باريس، في قلب المنطقة السياحية والرفاهية والسلطة، يوما سبت من الاجتياح، وُضعت حواجز، ووقعت حرائق في البنوك ونُهبت متاجر. المتظاهرون كلّهم يرتدون سترات صفراء عليها أشرطة الفلورسنت المرئية من بعيد للتنبيه في حال وقوع حادثة ما.
إنهم يريدون من يملكون السلطة، سواءً كانوا في الحكومة أم لا، يريدون أن يَروهم أخيراً. ينتمون إلى الطبقات الشعبية، والتي سرعان ما "يُنسى" أنها تشكّل أكثر من 50% من البلاد. هؤلاء الناس، الذين يعيشون بأقل من ألف يورو شهرياً، لم يصلوا من قبل إلى هذه الدرجة من سوء التغذية، وسوء السكن، وسوء الرعاية، والضرائب المفرطة، والاحتقار الصريح، خاصة من قبل رئيس الدولة، الذي ضاعف في الأشهر الأخيرة "العبارات الصغيرة" التي تتوجّه ببرود ومباشرة إلى "الأميّين"، "أولئك الذين هم لا شيء" والذين يكلفونه "كمية أموال طائلة" (مجنونة بتعبيره حرفياً) يضعها في المساعدة الاجتماعية.
مع ذلك، في مواجهة حركة خارجة عن الأحزاب والنقابات ودون ناطق رسمي باسمها أو من يمثّلها، والتي بدأت تنتظم في كل أنحاء فرنسا من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، فإن الاستجابة المعتادة بما في ذلك مسألة الحفاظ على النظام، هي ردود فعل عفا عليها الزمن، بل إنها سخيفة. هذا الشعب، الذي فاجأه انقلاب النيوليبراليين المتعاقبين، الذي لم يعد يصوّت، لم يعد يتحرّك، بدا وكأنه ميت نهض، وحيّر بنهوضه هذا السلطة، كل أنواع السلطة، التي كانت تحاول أن تحجّمه، فكرياً، على الأقل فكريّاً. هل هي انتفاضة، واحدة من تلك الثورات الفلاحية في العصور الإقطاعية؟ أو بالأحرى، عودة "الطبقة التي لا ترتدي السراويل"2 من 1789؟ يتساءل المؤرّخون هل هي عودة "البوجاديزم"؟3 أم أنها الشعوبية التي تضرب في كل أوروبا كما نرى؟ يتساءل المحلّلون السياسيون لا بد أنها منظّمة لديها مطالب واضحة! تؤكّد النقابات أن هذا لا يمكن أن يستمر، لا بد أن نعود إلى رشدنا! مطرقة القنوات الإخبارية مستمرّة.
ولكن كيف "نعود إلى رشدنا"، أشخاص مبدعون ومرحون يحوّلون رسوم الطرق السريعة إلى منطقة للعب الـ"بيتانك" (لعبة الكرة الحديدية)، ويرقصون على المستديرة، ويبنون أكواخاً وحواجز ليفرضوا الحظر على الجادة الشهيرة التي بناها البارون هوسمان بالضبط لمنع التمرّدات التي كانت متكرّرة في باريس في القرن التاسع عشر؟! وأخيراً كيف يمكن إخضاع من أدرك للتو مدى قوته، وحاول اختراق قصر الإليزيه بحثاً عن إيمانويل ماكرون نفسه؟
هذا هو البلد الذي يُصدّر منذ خمسين عاماً خبراته في مكافحة التمرّد (والأسلحة معها)، يبدو عاجزاً على نحو غريب. صحيح أننا لا نتعامل مع السكان الأصليّين للمستعمرات أو المستعمرات السابقة، و"إطلاق النار" ليس مستحسناً عندما يكون غالبية السكان من البيض.
لذا فإن الشرطة تستجيب لهذه اللحظة كما تعرف أن تفعل وكما أمرت: مطر من القنابل اليدوية، تصم الآذان وتفرّق الحشد وتسيل الدموع (قلت إن لدينا معدات، وإنها جيدة!)، والتي تُنتج الجرحى، والعور (من أعور)، وربما مبتوري الأطراف، وتردع أولئك الذين ما زالوا عند حقّهم في العودة إلى التظاهر.
والآن، يبدو أن كل شيء في الوقت الحالي يؤكّد المقابلة التي قدّمها جان جينيه بين "وحشية النظام" والعنف بوصفه "فعلاً حراً": "عندما يأتي العنف من الأعلى، ينبغي وصفه بالوحشية: تصرّف مسرحي يضع حدّاً للحرية، وهذا ليس لسبب آخر سوى لممارسة إرادة إنكار أو تعطيل إنجاز حر".
* Nathalie Quintane شاعرة وكاتبة فرنسية وُلدت في باريس عام 1964، نشرت مؤخّراً كتاباً بعنوان "عين ناقصة" تعود فيه إلى الحراك الاجتماعي المعروف بـ "Nuit debout" (ليلة وقوف)، الذي شهدته بلادها في آذار/ مارس 2016 احتجاجاً على قانون العمل الجديد
** ترجمة عن الفرنسية نوال العلي
ــــــــــــــــــــــ
هوامش
1 بلدة روان في منطقة آرديش
2 لقب كان يُطلَق على العمّال الذين كانوا سبباً أساسياً في اندلاع الثورة الفرنسية
3 نسبة إلى بيير بوجاد، السياسي الذي أسّس الحركات النقابية في فرنسا