مثّل التعبيريون، حين ظهروا في نهاية القرن التاسع عشر، منعطفاً في تاريخ الفن التشكيلي جعلوا معه الجانب الذاتي العنصر الأساسيّ في اللوحة؛ بحيث بدأ جمهور الفن يتلقى مشاعر الفنانين من قلق وحزن وغضب واستمتاع، قبل أن يتلقّى مواضيعهم ذاتها. ومن جانب آخر، كان هذا التيار الأكثر وعياً في زمنه بتغيّرات الفن؛ إذ تخلّى المنتسبون إليه عن هاجس معظم فناني القرن التاسع عشر في تحدّي الصورة الفوتوغرافية، فقاموا بتغيير معالم الواقع ومقاييسه وتطويع كل شيء حولهم لإيصال الأحاسيس عبر اللوحة. على مسافة قرابة قرن، كيف يمكننا قراءة مشهد التعبيرية في الفن؟
لعل عناصر من الإجابة يمكن التقاطها في معرض "ألوان التعبيرية"، الذي افتتح في التاسع من الشهر الجاري في "متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر" بالرباط، ويتواصل حتى نهاية آب/ أغسطس من السنة الجارية، ويجمع 42 لوحة لأبرز أسماء التيار التعبيري، وعلى رأسهم بول سيزان وبيير أوغست رينوار وكلود مونيه، وهي لوحات جرت استعارتها من "متحف أورساي" الباريسي، وهو ما يفسّر ربما هيمنة الأسماء الفرنسية، في حين أن التعبيرية كانت قد تبلورت في شمال أوروبا، خصوصاً ضمن تجارب إدفار مونش وماكس بكمان، كما أن مصطلح التعبيرية ابتدعه ناقد الفن الألماني فيلالم فورنغر عام 1908.
لكن أهم ما يمكن أن يخرج به زائر المعرض، هو ذلك التجاوب الذي يخلقه حضور مجموعة كبيرة من الفنانين ضمن نفس المدرسة، حتى إن المعرض يبدو مثل أنطولوجيا - بعبارة مستعارة من الأدب - تتيح أن نقارب مشهداً متشعّباً بنظرة واحدة.
لا يقسّم المعرض اللوحات بحسب الفنانين، ولا حتّى بحسب الترتيب الكرونولوجي لإنجازها، بل يعتمد منطقاً آخر يتمثّل في ترتيب اللوحات بحسب اللون المهيمن، حيث ننتقل من الأسود إلى الأبيض، مروراً بالألوان الباردة والحارّة، واللوحات ذات التلوين المختلط. هذه المقاربة اللونية لعلّها هي الأخرى مستلهمة من رؤية التعبيريين، إذ إن اللون هو عنصر التأثير الأقوى لديهم، وكثيراً ما أشار نقّاد الفن إلى أن التعبيريين قد صنعوا بلاغة خاصة، تقوم على ترتيب علاقات بين الألوان والحالات البشرية.
لا شكّ بأن التعبيرية باتت مدرسة مهجورة منذ عقود عديدة، في الوقت الذي أصبحت فيه النزعات المفاهيمية غالبة على حساب كل طرح يقوم على المشاعر والأحاسيس في الفن. حتى هذه المعارض التي تستعيد التيار، تربطه بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولكنها لا تتساءل عن أسباب هذا الانحسار، هل تعود لعوامل داخل الفن أم لظروف تمتد إلى ما هو أوسع؟ كما لا تحاول هذه المعارض أن تفسّر عدم امتداد هذا التيار خارج المركز الغربي، أليست استعارة مجموعة التعبيريين في المغرب مناسبة لطرح سؤال كهذا؟