قليلون فقط مِن بَين من شاهدوا الفيلم الوثائقي "النهب الهائل للكتب الفلسطينية" لم يُضف العملُ إلى معلوماتهم الكثير، إلّا أن الغالبية العظمى، التي تجهل وقائع السرقة والنهب التي رافقت سرقة الوطن الفلسطيني عام 1948، ومحاولة سرقة ذاكرة الفلسطينيّين وتاريخهم وتراثهم الفني والثقافي، بما في ذلك كتب من مكتبات خاصة وعامّة، بل وحتى انتحال الثوب الفلسطيني الشهير بألوانه وزخارفه المميّزة، وأدوات البيوت الفخّارية والنحاسية والمعدنية والمباني الأثرية وعرضها في المتاحف بوصفها موروثاً "إسرائيلياً"، أصابها - أي هذه الغالبية - ذهولٌ يماثل ذهول المؤمنين بالرواية الصهيونية المختلقة القابعين في غرب ما زالت ظلمة القرون الوسطى تخيّم عليه حين استغربوا حديث الفيلم الوثائقي عن ثقافة فلسطينية مزدهرة، أو وجود شعب فلسطيني، وواجهوا مخرجه الأميركي بني برونر، وتساءلوا مستنكرين: "هل يوجد فلسطينيون؟ هل لديهم لغة؟".
عُرض الفيلم في المعرض التذكاري الذي أقامته "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية في بيروت" في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر الماضيَين. ولعلّه جاء في وقته لمركزة الوعي الفلسطيني ومنعه من التشتُّت، كما قال القائمون عليه.
ولكن الأهم أنه جهدٌ هدفه الحفاظ على التراث الوطني والوقوف في وجه محاولات إبادته وسرقته، بل وانتحاله على يد الصهاينة كما أصبح معروفاً في أوساط المعنيّين: انتحال الأغاني الشعبية وألحانها، والدبكات الفلسطينية، والقصص الشعبي، وتغيير أسماء الأمكنة والتضاريس الجغرافية، وغير ذلك ممّا لا يجهله المختصّون، ولكنه ظلَّ بعيداً عن أسماع ووعي عامة الناس.
يفتح هذا الفيلم، والمعرض الذي قدّمه، بوابة الدخول إلى وقائع الانتحال التي لا تختلف عن وقائع السرقة والنهب والإبادة التي تَعرَّض ويتعرّض لها الوجود الفلسطيني بشتّى جوانبه، الإنسانية والطبيعية، وخاصة انتحال شجرة الفنون، أو الثقافة الجمالية التي هي جزءٌ فاعل من أجزاء تشكيل الهوية والحفاظ على الجماعة البشرية حين يَقتلع المستعمرون، كما يفعل الصهاينة، الوجودَ المادي الملموس ويسرقون المكان ويشرّدون أصحابه، ولا يكتفون بذلك، بل يسعون إلى استعمار الذاكرة أيضاً، أي محوها وزجّ ذاكرة زائفة في تلافيفها الخاوية.
تحضر في الذهن هنا، بالترافق مع ذكرى نهب عشرات آلاف الكتب والمخطوطات الفلسطينية التي كشف الفيلم الوثائقي عن تفاصيلها في الشهر الماضي، قضيّة انتحال نموذجية حديثة أيضاً لأطروحة نادرة هي الأولى من نوعها تؤرّخ للفن الفلسطيني قبل النكبة، والمجهول تاريخه حتى من قبل العرب، والفلسطينيّين منهم بخاصة، قضى الفنّان والباحث في الفنون، الفلسطيني كمال بُلاّطه (1942)، المنفيّ عن مدينته القدس منذ خمسين عاماً تقريباً، أكثر من ثلاثة عقود في تجميع تفاصيلها وتدقيقها قبل نشرها.
قامت بهذا الانتحال، الذي لا يختلف كثيراً عن فعل السرقة والنهب، أكاديمية صهيونية تعمل أستاذةً لتاريخ الفنون في "الجامعة العبرية" في القدس المحتلّة تُدعى غانيت أنكوري، والتي أصدرت في لندن كتاباً عنوانه "الفن الفلسطيني"، قبل ما يقارب عقداً من الزمن، زعمت فيه أنه "أوّل كتاب عن الفن الفلسطيني يرى النور"!
ملخّص القضية أن هذه "الباحثة"، وبكلّ بساطة، استولت على أبحاث بُلاّطه في الفن الفلسطيني، واستخدمت ما تضمّنته من معلومات وتحليلات ومفاهيم في صياغة كتابها، ونسبت مضمون هذه الأبحاث إلى نفسها. بالطبع، كان يمكن أن يمرّ هذا الفعل مرور الكرام في الأوساط الفنية الغربية، بل والعربية أيضاً، ما دامت هذه الأبحاث لم تصدُر في كتاب، ولن تُجمع وتصدر بقلم الفنّان الباحث باللغة الإنكليزية إلّا لاحقاً. ولكن حدث أمرٌ لم يكن في حسبان هذه الباحثة.
لكي تظهر بمظهر "باحثة" حقيقية، وتنفرد بسرد قصّة الفن الفلسطيني، أو "الاستيلاء على صوت الضحية وروايته" بعد إخراسها بالطبع، اختارت كمال بُلاّطه مع أربعة فنّانين فلسطينيّين آخرين لتُعدّ فصلاً مستقلّاً عن تجارب كلّ واحد منهم على حدة، فاشترط بُلاطه أن يطّلع على مخطوطة كتابها قبل أن يوافق، فحاوَلَت التملُّص، ثم رضخت أخيراً حين وجدته مصرّاً، فأرسلت إليه الفصول الثلاثة الأولى من المخطوطة. ونترك لهذا الفنان الباحث أن يتحدّث عمّا اكتشف حين بدأ بتصفُّح هذه الفصول.
يقول في لقاء معه في أواخر أيلول/سبتمبر 2006: "فوجئتُ حقّاً وأنا أقرأ هذه الفصول. لم تصدّق عيناي شبكة الحيَل الكتابية التي سطّرتها أنكوري لإخفاء المصدر الحقيقي لما أتت به من تفاصيل مختلَسة من دراساتي.. تفاصيل حيكت بوساطتها أطروحةُ الكاتبة المنحولة برمّتها من الأطروحة المركزية التي قضيتُ ثلاثة عقود من عمري في تجميع تفاصيلها".
وسارع الفنّان الباحث إلى كتابة رسالة إلى الناشر المزمَع أن ينشر "كتابها"، وثّق فيها المقاطع المنتحَلة في الكتاب، مقارناً إياها بالمرجع الأصلي في أبحاثه. وأرسل نسخة من الرسالة إلى "جامعة هارفارد" وبعض الأوساط الأكاديمية والفنية، ما دفع الناشر إلى تجميد إصدار الكتاب، طالباً من "الباحثة" إجراء تعديلات ليتمكّن بعدها من نشره. وكان أن أجرت التعديلات التي طلبها الناشر، إلّا أنها لم تذكُر المصدر المغيَّب، وأمعنت بدلاً من ذلك في التمويه والتضليل المحكَم وطمْس كلّ أثَر مباشر يكشف العلاقة الحقيقية بأبحاث بُلّاطه.
تناولت سوزان نيس بلات واقعةَ الانتحال بالتحليل والأدلة في مجلّة "تاريخ الفن" التي يصدرها "اتحاد مؤرّخي الفن البريطاني"، ومجلّة "الفن" الأميركية التي نَشرت دراسةً كاشفة تحت عنوان "رخصة للرسم: الفن الفلسطيني في مواجهة الكولونيالية" للأستاذ في جامعة كولومبيا جوزيف مسعد، ولكن توقّفَت المجلّتان، بتأثير ضغط الأوساط الصهيونية، عن متابعة القضية، بل واعتذرت إحداهما للمنتحِلة الصهيونية ودفعت تعويضاً لها بدل أن تُطالبها بردّ علمي بالبيّنة والدليل.
على الصعيد الفلسطيني والعربي، كان هناك تفاعلٌ جيّد إلى حد ما مثّله بيان "رابطة الفنّانين الفلسطينيّين" الذي حدّد الفصول الثلاثة الأولى من كتاب أنكوري، والتي تتعلّق بالتأريخ للفن الفلسطيني و"تتضمّن تشويهاً متعمَداً"، و"تمويهاً مُحكَماً للنتائج التي توصّل إليها بلاّطة في دراساته الرائدة"، إلى جانب بعض الصحف العربية وعدد من الكتّاب الذين تناولوا القضية هنا وهناك.
ومثلما يُبرهِن الفيلم الوثائقي للغربيّين المضلَّلين على وجود ثقافة مزدهرة في فلسطين وكتب ومكتبات ومدن كبرى تُعتَبر مراكز نشاط فنّي وتجاري، وبالتالي وجود شعب متحضّر تم اقتلاعه لإقامة أكثر المستعمرات وحشية وعنصرية في الأزمنة الحديثة، تٌبرهن أبحاث الفنّان بُلاّطه بالنهج ذاته على وجود هذا الشعب الذي تميّز بثقافة وحياة اجتماعية متطوّرة وفن تشكيلي متعدّد الوسائط قبل النكبة بزمن طويل، حتى بمعايير الزمن الراهن.
شبكة الحيل
رغم مرور أكثر من عقد على قضية الفنان كمال بلّاطه والمنتحلة الإسرائيلية غانيت أنكوري، وما أثارته من سجالات، وصدور كتاب بلاطه "الفن الفلسطيني" (الصورة)، ما زلنا نجد من يستشهد بـ "كتاب" أنكوري المسروقة أطروحته. ولعل السر في شبكة العلاقات النفعية التي دفعت في وقتها بفنان فلسطيني بارز إلى تقديم شهادة ضد زميله لصالح محامي المنتحلة الإسرائيلية، وهو بالمناسبة لم يكن سوى محامي أرييل شارون!