محمد أركون.. عقلنة الفضاء الإسلامي

14 سبتمبر 2015
الذكرى الخامسة لرحيل المفكر الجزائري (1928-2010)
+ الخط -
يبدو فكر محمد أركون (1928 - 2010) عصيَّاً على التلخيص. لكن يمكننا القول إن ثلاثة محاور كبرى شغلت المفكر الجزائري في مؤلفاته الثلاثَةَ عشرَ التي بدأ في إصدارها منذ 1960. ماذا تقول لنا حين نَستنطقها على ضوء تساؤلٍ عام: هَل كان فكر أركون سابقاً لعصره؟

تستندُ الممارسة النظرية النقدية لـ أركون إلى مبدأ تطبيق نظريات العلوم الإنسانية على مجال البحث في الأديان عموماً، وفي الإسلاميّات خصوصاً، وعلى تأكيد الارتباط الوثيق بين أشكال التديُّن التي أنتجتها المجتمعات والمُحدّدات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المُؤثرة فيها، ضمن حركية ما أسماه: "مُجتمعات الكِتاب"، لِتَأسُّسها على كتابٍ مقدّسٍ وتراثٍ تأويلي. فالتديّن - حَسب هذا المنظور الأنثروبولوجي- نشاطٌ بشري محض يُنجزه الإنسان لِيُؤَنْسنَ العالَم من حوله ويَجعله مصدراً للمعنى.

ولهذا المبدأ تبعاتٌ عديدة تتلخّص في اعتبار الحركة التاريخية - المادية وليدةَ الوعي الديني وليس العكس، فَما يصنع التاريخَ ليس شروط الإنسان المادية فَحسب، وإنَّما تضافر العوامل التاريخية التي تَسير بالتوازي مع نشاط المخيال الحيّ. وهنا، يتباعدُ أركون عن الماديات الماركسية السطحيَّة، بدرسه لتأثير الوعي الأسطوري في حركة التاريخ وتوجيهِ الأحداث فيه.

يقوم فكر أركون، من جهة أخرى، على تحليل الأطر التأويلية والثقافية لفهم النصوص المُقدَّسة واستخدامها، وتوظيفها والتلاعب بدلالاتها في ظلِّ الصراعات الاجتماعية والسياسية على السلطة، وما يتبعُ ذلك من توظيف.

لقد أظهرت إسلامياته التطبيقية أنَّ جلَّ ما يعتبرهُ الناس مقدّساً هو وليد الصراع على السلطة الرمزية والمادية، فالعقائد والتفاسير والأحكام والأخلاق الدينية لم تنزل -حسب رأيه- من السماء، بأشكالها الجدلية ومضامينها الفكرية، بل ابتكرها بشرٌ في نطاق ممارسة تاريخية مشروطة بنظامهم المعرفي، يرسمُ لهم دوائر ما يُسمَحُ التفكير فيه وما لا يُسمَح.

إذ من بين المبادئ المنهجية في أعمال أركون، التمييز بين دوائر المُفَكَّر فيه واللامُفَكَّر فيه، ودوائر غير القابل التفكير فيه من خلال تعرية النظام المعرفي الذي يُنتجها ويرسم مجالاتها للتأثير في علاقات التاريخ والفكر واللغة.

وبما أنَّ الدراسات الإسلامية كانت طوال القرون الثلاثة الماضية حكراً على المستشرقين، فقد وجَّهَ لهم أركون ضرباتٍ مُوجَعة، وعاب على الاستشراق الغربي اقتصاره على المناهج الفيلولوجية (كتَحقيق النصوص، والدرس البارد لحوادث التاريخ، والاكتفاء بالتحرّي في صدقية تلك الأحداث) بدل التركيز على وظائف تضخيمها أو اختلاقها ودراسة آثارها المجتمعيَّة.

كما انتقد ضعف التزامهم بإشكاليات المجتمعات الإسلامية حين يدرسونها كما لو كانت مجتمعاتٍ مُندثرة، لُغتها ميّتة، وضمَّ صوته إلى إدوارد سعيد في اعتبار الاستشراق انكفاءً غربياً على الذات، يعتبر فيه الغرب نفسَه مصدرَ الحقيقة ومركز العالم، والبقية هامشٌ، خارجَ التاريخ.

وكان من نتائج هذا العمل الدؤوب إسهاماتٌ ثرية في ابتكار مصطلحات العلوم الإنسانية ونقلها إلى اللغة العَربية، فقد نشطَ -برفقَة صديقِهِ هاشم صالح- في ترجمة الأدوات المفاهيميّة ونحت مقابلاتها العربية عبر اقتراضها واشتقاقها حتّى شكَّلت تَرجَمَة أعماله مرحلةً مهمّة في الإبداع المفاهيمي في العصر الحديث، فاغتَنَت اللغة العربية بمئات المصطلحات الإناسيَّة مثل: الأسطرَة والأنسنة والخطاب والتأويل والبَنْيَنَة وغيرها.

وألحق حركة التوليد المعجمي هذه بممارسة نقديَّة مُعَمَّقة في قضايا الترجمة، فَبَيّن أنَّ أغلب المفردات العربية، المتأتية من المُعجَم الكلاسيكي، لا تؤدّي الدلالات الناشئة في بيئة الإنسانيات، ودلل على ذلك بمصطلح mythe الذي لا يحيل مُرادِفه العربي "أسطورة" إلى معناه الأنثروبولوجي الدقيق.

وبالجُملة، فالنسق الأركوني فكرٌ نقديّ صارم، مُتشبّع بمناهج العلوم الإنسانية وبأحدث ما أنتجته من مفاهيم إجرائية ونظريات في دَرس المِخيال، واللسان والفكر والتاريخ. وفي نسقه اقتدارٌ على المقارنة بين الظواهر الدينية في مجتمعات الكتب الثلاثة، يُغذِّي ذلك تَمَكُّنه التام من الخطابات الفلسفية الحديثة، واطِّلاعه المعمّق على شؤون العالم العربي والتحوّلات الكبرى في أوروبا والأميركتين.

هكذا، استطاعَ هذا الفكر النقدي نَزع الأسطرة عن التراث المُقدّس وإزالة الرؤى السحريَّة عنه. ومن المشروع اليومَ أن نتساءلَ عن نتائج هذا التفكير وقيمته.

أوَّل ما يُلاحظ أنَّ التجريد المُفرط الذي ميَّزَ أسلوب أركون في كلِّ ما كتبَ من تحليلات، مع ما يَستتبعه من مُصطلحات ومفاهيم تقنيَّة غامِضة قد أدَّى إلى عَدم فهم عامة القُرّاء لها ولمضامينها المعرفية وخلفياتها الفلسفية، وهو ما جعل خطاباتِه معقّدةَ، عسيرةَ الهَضم، تحيلُ إلى مرجعيات ذهنية وأبنية صورية لا علاقة لها بواقعهم.

أضف إلى ذلك، أنَّ هذه المناهج -التي يُقَدِّسها أركون- هي محلُّ اختلاف شديد بين الدارسين، ولا تنفكُّ تتجدّد وتتراكم، يتجاوز بعضها بعضاً، وهي جزءٌ من تاريخ الأفكار، فهي إذن تاريخية. ومن هنا، وقع هو نفسه في ضربٍ من الدور والتسلسل حين نادى بنقد تاريخية الفكر الإسلامي عبر أفكار تاريخية.

كما أنَّ فصل الملايين من الشباب المسلم عن مرجعيّتهم المثالية والإلحاح على تاريخيتها ونسبية القيم فيها، لامتزاجها بأهواء السياسة، لا يَزيدهم إلا تمسكاً بتلك المرجعية. وقد يستدلُّون على ذلك بكون هذه المناهج مُستوحاة من دراسة المجتمعات الأخرى (المسيحية، اليهودية، الأفريقية البدائية...) وبالتالي فمفاهيمها تاريخيَّة ونسبية، ولا يجوز تطبيقها على المجتمع الإسلامي بخصوصياته الفارقة.

كما أنَّ بعضَ هذه المناهج ظاهرها علميٌّ- لساني، وباطنها إيديولوجي-استعماري، ولا تعوزهم الأمثال فيكتفون بأعمال برنار لويس وتعاونه مع المخابرات الغربية.

حين فَكَّك أركون أبنية المخيال الديني وعَوَّضه بمخيال علمي- تحليلي، نسيَ أنَّ العربي المسلم يحتاج إليهما معاً، وبهما يعيش ليؤنسنَ العالمَ، إذ لا بدّ للعقلانية الجديدة أن تَغتني بالتراث وأن تستمد منه دون أن تخضع بسذاجة إلى صرامة العقلانيات الصورية.

ومن مظاهر الانقطاع، غيابُ العلاقة العضوية بين الفكر الأركوني ومنظومة التحولات الاستراتيجية والاقتصادية في العالم العربي، فقد تركَّز عمله على النصوص (خصوصاً القديمة) ومناهج استنطاق أبنيتها الشكلية، تاركاً واقعاً عنيداً، تنخره تغيراتٌ خطيرة متسارعة، لم يتنبَّأ بمدى فظاعتها أحد. وذلكَ من قصور المنهج.

دلالات
المساهمون