عرفت الفنان العراقي فيصل لعيبي منذ أكثر من ثلاثين عاماً في باريس، حين كان طالباً في "المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة". كنا نلتقي في "كافيه دي بوزار"، مع عدد من الفنانين العرب والعراقيين، مثل صلاح جياد وغسان الفيضي، ونعمان هادي وثامر القيسي وعلي فنجان، وعدنان الجبوري وعقيل الأوسي، ومصطفى فتحي وإبراهيم جلل، ونذير نبعة، ويوسف عبدلكي وغيرهم.
في تلك الأيام، كنا نندهش كيف كان فيصل لعيبي ينجز لوحاته في ظروف حياتيه صعبة، حيث لا مرسم ولا موارد عيش ثابتة لديه. الثابت الوحيد أن جذوة الفن وحدها التي كانت، وما زالت، تغلي في أعماق هذا الفنان المتميّز بين أبناء جيله.
مجموعة لوحاته الباريسية، التي تعود إلى أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تضمنت موضوعات مختلفة؛ كائنات مرسومة بالحبر والزيت والتخطيط تبحث عن إنسانيتها في عوالم تحكمها قوانين الغابة. هذه الكائنات تتوزع بين الجائع والمناضل والعامل والمرأة الملفعة بعباءتها السوداء، وغيرها من الموضوعات والأشكال التي تنتمي، بمعنى أو بآخر، إلى سجلّات بلده.
منذ تلك الفترة ولعيبي يذهب إلى رسم الوجوه بطريقته، جامعاً صورة جلجامش وأبجديات سومر وبابل بالأحياء الشعبية البغدادية. كان المنفى ثيمته، ولكنه منفى العراقيين جميعهم حتى في وطنهم.
من هذه الخلفية التي لا تزال تلقي بظلالها على أعماله، تأتي لوحاته الأربعون المعروضة في "غاليري ميم" في دبي، الذي يشرف عليه الفنان الكبير ضياء العزاوي. هنا، يقدّم لعيبي واحة من الوجوه العراقية الأليفة، كما لو أنه يفتح لنا كنزه الفني الذي اختزنه سنوات طويلة.
ليس الوجوه فحسب، بل الأحداث والآثار وتفاصيل المجتمع العراقي ورياح السياسة التي جبلت المجتمع العراقي وأحالته إلى حالة كونية. هكذا، يرفق لعيبي مراحله مختلفة من تاريخ العراق على سطح لوحته، ويذهب أبعد من ذلك عندما يصوغ لنا ما فقدناه فيه منذ ستينيات القرن الماضي حتى الوقت الحاضر.
ولعل الناقد الإنجليزي فليب فان كان على حق حينما وصف أعمال هذا الفنان العراقي بأنها تلخص "كبرياء اللوحة". هذا الكبرياء نجده في حيوات البسطاء من الناس: الجالسون في المقهى، بائع الفاكهة، الحلاق، الزنجي، النساء ضحايا الحرب، الطفل ماسح الأحذية، وغيرهم... هكذا، لا يمكن النظر إلى أعمال لعيبي من دون التفكير في جذوره العراقية، البغدادية على وجه التحديد.
بائع البطيخ، أكريليك على القماش (100×122) |
لوحات تبحث عن الخصوصية والبيئة والهوية العراقيتين رغم قضاء صاحبها فترات مديدة من حياته في روما ولندن وباريس. ويبدو جلياً أن الفنان ليس مأخوذاً بتيارات الفن الحديث، خصوصاً التجريدي منه، على عكس عدد كبير من الرسامين العرب الذين درسوا في الغرب أو عاشوا فيه.
يقول لعيبي معلّقاً على هذه النقطة: "يحاول كثير من الرسامين العراقيين والعرب التشبّه بالرسامين الغربيين، ولا يفكرون بمشاريعهم المحلية الخاصة. أنا رسام محلي، بروحية المواضيع التي أطرحها، وهي بسيطة كما تراها في اللوحات المعروضة حالياً مثل بائع البطيخ الأحمر، وبائع القماش، وعازف الناي، ومدخن النارجيلة، ورواد المقهى. العقدة عندي ليست في الموضوعات بقدر ما هي في الجماليات".
ويضيف: "أؤمن بالمجتمع والواقع والحياة وأستمد كل شيء من بيئة الإنسان الذي لا يغيب أعمالي، لا هو ولا المجتمع، بمشاكله وقضاياه. المقهى بالنسبة إلي مسرح أكثر مما هو مكان بسيط للقاء البشر؛ تجد فيه الإقطاعي ورجل الدين والمثقف والعسكري والطالب والأمي، الجميع منهمك بحياته: هذا يقرأ في صحيفة وآخر يقرأ في كتاب، وآخر ينظر في الأفق، وهكذا...".
غير بعيد عن "غاليري ميم"، تكتظ المنطقة بعشرات الغاليريهات التي يغري الفن الحديث والمعاصر القوس الأوسع من مقتني اللوحات الذين يقبلون عليها. نسأل لعيبي عن رأيه في هذا، فيقول: "أعرف أن الشائع هنا أو في معظم أصقاع العالم هو الفن الحديث. على أي حال، أعتقد أن عهد الفن التجريدي انتهى منذ الثلاثينيات القرن الماضي، أي منذ أيام (فاسيلي) كاندنسكي. لكن الأميركيين بعثوا الحياة فيه من جديد، عبر شراء اللوحات التجريدية والترويج لها. كما أن هذا النوع من التشكيل عرفة صعوداً من خلال تجربة جاكسون بولوك الذي استبدل الريشة بعلبة الصبغ من أجل مواجهة الواقعية الاشتراكية والتركيز على الفردية والحرية. لكن، يغلب على هذا الاتجاه وترويجه العنصر السياسي وليس المعرفي".
وماذا عن الفنانين العرب الذي يتبنون الرسم التجريدي؟ "هناك من يكرر هذا النهج الفني في لوحاته، ومنهم من يسعى إلى الهروب إلى الأمام لأنه يعاني من الضعف الأكاديمي. جرت محاولات عديدة لمزج الفن التجريدي بالتراث الإسلامي أو للبحث عن جذور فيه، كما فعل الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد، الذي سمّى هذا النوع من المزيج بالفن ذي البعد الواحد، مستخدماً الحرف العربي في اللوحة، ليستطيع بعد ذلك أن يجمع عدداً من الفنانين العرب حوله. غير أن هذا لا يكفي. ما يبقى هو الفن الحقيقي. الحرف، وحده، لا يكفي ليجعل من لوحة ما عربية أو إسلامية".
أما عن موقع تجربته وأعماله من المدارس والتيارات الفنية، فيقول الرسام العراقي: "هناك من يصنّف أعمالي في سياق الواقعية السحرية. لكنني أميل إلى الاتجاه الذي يمثله جماعة (النحّات العراقي) جواد سليم في الفن الحديث، لأنني قريب من طروحاتهم الجمالية التي تبحث عن البيئة المحلية دون نسيان المعاصرة. وهنا أعوّل على ذخيرتي الفنية وتجربتي الشخصية والثقافية التي راكمتها عبر سنوات طويلة، مستعيناً، في الوقت نفسه، بالبحث والتنقيب في ألوان اللوحة وجمالياتها".