"قصوص" هي التسمية الجنس-أدبية التي يقترحها الكاتب والمترجم التونسي وليد سليمان (1975) لآخر إصداراته "كوابيس مرحة" (منشورات وليدوف، 2016). تسمية توحي بأن الكاتب سيدخل في محاولة للإفلات من معايير "القصة" وإن أحالت هيكلة العمل إلى أننا إزاء مجموعة قصصية. وسنجد أثراً لمحاولة الإفلات هذه ونحن نقرأ نصوصاً يجمعها اشتراك في الحديث عن الكوابيس بتنويعات بين مقامات الأدب والسياسة والتنظير والأسطورة.
ما الذي دفع الكاتب إلى هذه اللعبة الافتتاحية؟ ربما هي إشارة إلى عضوية الغلاف في تصوّر العمل، حيث يحمل تسع صور متشابهة، مع اختلافات لونية للكاتب الأميركي إدغار آلان بو، موضوع القصة التي حمل الكتاب عنوانها، وهو أيضاً غرس للقارئ في مناخ العمل الذي يلامس عوالم الأدب الأميركي.
في القصة الأولى، "المكالمة"، يغفو الراوي ثم يستفيق على صوت الهاتف ليجد الكاتب الأميركي بول أوستر على الطرف الآخر من الهاتف يقول له إنه اكتشف سرقته لأحد أعماله. يسمّي أوستر البطل باسمه، إنه وليد سليمان، الذي سيتساءل في نهاية القصة عن حقيقة ما حدث، هل هو واقعي أم مجرّد هلوسات، قبل أن يجد "تفسيراً وحيداً" هو "كثرة قراءة روايات بول أوستر قبل النوم".
في قصته الأطول، "كوابيس مرحة"، التي يقدّمها في شكل يوميات، يضعنا سليمان أمام نموذج آخر لهذا الذي يشبه التناص أو التلاقح بين الكوابيس والقراءات. هذه المرة يتكرّر الكابوس نفسه لدى البطل، "كابوس يراه بوضوح مثلما في فيلم سينمائي فائق الجودة"، وتظهر فيه الشخصية نفسها كل ليلة ما يستدعي من البطل أن يصف لرسام ملامح هذا الشخص، ثم يذهب إلى محل لوضع الصورة في إطار ليسأله العامل هناك "لماذا النظارات، في صورة من القرن التاسع؟".
يندهش البطل ويسأل محاوره: كيف عرف ذلك؟ فيرد بأنها صورة لإدغار آلان بو. إنه البورتريه الذي نجده على غلاف الكتاب. هذه المرة، لم يكن البطل يعرف بو، بل هو العامل في محل التصوير. قرار غامض ومربك اتخذه الكاتب، لعل فيه الكثير من نكهة أعمال رائد أدب الرعب الأميركي.
لا بد من التوقّف قليلاً عند هذه الإحالات في نص سليمان إلى عوالم الأدب الأميركي. مرة أخرى، ستسعفنا إحدى زوايا الكتاب. ففي آخر صفحاته، نجد تعريفاً بالمؤلّف يتحدّث عن تخصّصه في اللغة والآداب الإنجليزية.
لا يبدو الأمر مثيراً إلا حين نعرف قائمة منشورات سليمان (الموجودة أيضاً في نهاية الكتاب) والتي سنجد ضمنها، إضافة إلى الأعمال القصصية، ترجمات من الإسبانية والفرنسية، وكأنه خصّص هاتين اللغتين للترجمة، فيما ظلت الإنجليزية لغة الانفتاحات والمرجعيات.
لعل النصوص التي نقرؤها في "كوابيس مرحة" تشير إلى الدربة التي يكتسبها المترجم، والذي هو انتقائي إلى حد ما. فعند انتقال المترجمين إلى الكتابة، غالباً ما يمرّرون في أعمالهم الإبداعية ما ترسّب لديهم من الاحتكاك بعمليات إبداعية في ثقافات أخرى.
في معظمها، تبدو النصوص التي نقرؤها قريبة من مشاغل عالم الكتابة؛ إذ تضيء تفاصيل من يوميات الكتّاب وأشيائهم ونزواتهم وطرق تفكيرهم، بل إن نصاً بعنوان "محاولة لكتابة قصة قصيرة" يكاد يكون تنظيراً بحتاً، إذ يقول فيها سليمان: "يجب أن تحتوي القصة القصيرة على حبكة وشخصيات وبداية ونهاية، أو على الأقل هذا ما يقوله النقاد والمنظّرون عادة.
غير أن ذلك غير صحيح تماماً. فالقصة ما هي في حقيقة الأمر إلا عقد ضمني بين الرواي والقارئ، وطالما أن القارئ راض والرواي راض، فأنا لا أفهم سبب تدخّل النقّاد والمنظّرين في الموضوع". بعد ذلك، يقترح سليمان صيغة لعملية التعاقد هذه.
وفي نص بعنوان "معادلة قصصية"، يستعمل رموز المتغيرات الرياضية وشيئاً من أدبيات العلوم (الافتراضات والاختزالات وغيرهما) في كتابة قصة. عموماً، بدا سليمان وقد أمسك بمتناقضين في عمل واحد؛ الغموض كثيمة والوضوح والبساطة كأداة.
اقرأ أيضاً: "شوبنهاور مربّياً": نيتشه في سفره الأول