الفلسفة في الجزائر.. سلطة الواجهة وأسوارها

12 يناير 2018
فرانز فانون في تظاهرات مدينة مينيابوليس، 2015 (طوني ويبستر)
+ الخط -

لم تكد النّخب الجزائرية تنسى تصريح الوزير الأوّل عبد المالك سلّال، في شهر آب/ أغسطس 2013، الذي قال فيه إنّه لا جدوى ترجى من العلوم الإنسانية، حتى صدمتها مجدّداً وزيرة التّربية نورية بن غبريط، نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بما تسرّب من مجلس الوزراء، حيث خاطبت وزير التّعليم العالي بالقول: "نحن نحتاج متخصّصين في الرّياضيات بينما أنتم لا تزوّدوننا إلا بمتخصّصين في الفلسفة"، بما فُهم على أنّها نظرة احتقار إلى كل ما يمتّ إلى التفكير بصلة.

في موقع "المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية"، الذي كانت وزيرة التّربية نفسُها من المنتمين إليه، ولها فيه بحوث يُشهد لها بالرّصانة، نجد أنّ "القرارات والرّهانات السّياسية بالدّرجة الأولى، قد وجدت مجالها التطبيقي، أوّل ما وجدته في حقل الفلسفة. وأنه إذا كان مبدأ ديمقراطية التعليم من ضرورات المرحلة شمل كلّ مراحل التعليم، فإنّ عمليات التعريب والجزأرة والأسلمة بسلبياتها وإيجابياتها طبّقت أوّل ما طبّقت على الفلسفة"، التي شُرع في تدريسها باللغة العربية مطلع تسعينيات القرن العشرين، من خلال كتاب "الوجيز في الفلسفة"، الذي يعتبر شبه ترجمة للكتاب المعتمد في فرنسا عام 1960 مقتصراً على مبادئ في نظرية المعرفة والمنطق ومناهج العلوم.

يضيف الموقع: "في عام 1993، حيث كانت البلاد تحت هيمنة العنف والإرهاب، تمّ تعديل كتاب الوجيز، بإدخال التّعليمية في الفلسفة، وتقليص المواضيع واستبعاد المحاور الفلسفية الأساسية كالألوهية ومصير الإنسان والرّوح و المادّة، واستحداث مادّة الفلسفة الإسلامية في السّنة الثّانية ثانوي، من منظور سلفي جعل من فلاسفة الإسلام مجرّد مشائيين تابعين لأرسطو".


استثناء أمازيغي

في السنوات العشر الأخيرة، استفادت الفلسفة من مساحة زمنية أكبر في الطّور الثانوي، وبات مدرّسوها في الثّانويات وفي الأقسام الجامعية المتخصّصة جزائريين. لكنّ النظرة الرّسمية إليها بقيت قائمة على اعتبارها معطى كمالياً بالمقارنة مع العلوم التّجريبية، ممّا جعلها من التخصّصات الجامعية، التي يتمّ توجيه ذوي المعدّلات الضّعيفة إليها، ما عدا في حالات قليلة قادمة، في عمومها، من المدن الأمازيغية، "من باب إثبات الذّات الحضارية المقموعة، وتسخير عالم الأفكار في فهمها"، بحسب الباحث في علم الاجتماع الثّقافي عمّار بن طوبال.

دفع هذا الاستثناء الأمازيغي، ببعض المشتغلين بالسّؤال الفلسفي في الجزائر، إلى الدّعوة إلى جعل الثقافة الأمازيغية محلّ اهتمام الدّرس الفلسفي. بل إنّ الباحث أحمد سليماني أثار ذات مرة في فيسبوك مسألة وجود فلسفة أمازيغية لم يُنتبه إليها.

يقول الباحث وأستاذ الفلسفة في جامعة الجزائر، عمر بوساحة: "ندرس في أقسام الفلسفة شذرات الفكر الشّرقي القديم، وبلاد ما بين النهرين، وحضارة مصر القديمة وعلومهم وأساطيرهم، وكذا تاريخ الفكر الأسطوري اليوناني قبل نشأة الفلسفة هناك، ولا نبذل أيّ جهد في التّنقيب عمّا قدّمه أسلافنا الأمازيغ! وكأنّ أرضنا بور لم تنتج شيئاً له علاقة بالفكر والفلسفة". يسأل: "أين نضع لوكيوس أبوليوس الأديب الحكيم (توفي سنة 180 م)، والقديس أوغسطين (توفي سنة 430 م)، وهو الذي تأسّست على جهوده الفلسفة المسيحية برمّتها؟".

يضيف بوساحة: "لا نسمح للآخرين بكتابة تاريخنا من منظورهم، وبتر ما يريدون منه. ولا نمنحهم الفرصة لتقديم صورة عنّا كما يرغبون. ولا ينبغي أن تمنعنا علاقاتنا الإنسانية من التميّز عن تلك الشّعوب في أشياء عديدة، كما هي متميّزة عنّا. فلسنا ملاحقَ بلهاءَ في تاريخ الآخرين، لأنه لا يوجد في الكوكب من يقبل بذلك".


أسئلة معزولة

من جهته، يرى المشرف على فضاء "ملتقى الأنوار" في الجزائر العاصمة، وعضو "الجمعية الجزائرية للدّراسات الفلسفية"، سعيد جاب الخير أنّ هناك فرقاً بين جيل المشتغلين بالسّؤال الفلسفي في جزائر العقدين اللذين سبقا الاستقلال الوطني (1962) والعقدين اللذين أعقباه، والمشتغلين به في الوقت الراهن، من حيث العمق الفكري والإيمان بالفعل المعرفي والانفتاح على الدّرس الفلسفي في العالم وغزارة التأليف والحضور في منابر الفكر العالمي وتكوين عقول حرّة جديدة والتّأثير في المحيط والقدرة على تكريس توجّهات فكرية وثقافية سياسية داخل دواليب السّلطة نفسها. يقول: "من ينكر مثلاً لمسات المفكّر مصطفى الأشرف (1917 ـ 2000) في الحقلين السياسي والتّربوي؟ لقد كانت كتبه خاصّة "الجزائر أمّة" و"الجزائر والعالم الثّالث" في حكم البيانات الفلسفية".

يتابع جاب الخير: "إنّ تجربة مثل تجربة فرانز فانون (1925 ـ 1961) استطاعت في ظروف استعمارية صعبة وفي ظلّ نقص فادح للإمكانيات، أن تفكّك ظاهرة الكولونيالية وتنقض مقولاتها في ميادين علمية كثيرة، إلى درجة تأسيس مدرسة جزائرية في التّحليل النفسي ساهمت في تكريس جزائرية الجزائر، ذلك أن الجزائر لم تستقلّ بالسلاح فقط، بل بالجهود الفنية والفكرية أيضاً، مثلما فعل فرانز فانون على سبيل المثال".


من زاوية أخرى

واقع الفلسفة في الجزائر يمكن مقاربته من زوايا أخرى، مثل تحوّلات محاور البحث في الجامعة. مؤخراً، ناقش الطّالب مصطفى بوخالفة مذكّرة ماجستير في موضوع "علم الكلام الجديد، الهوّية والخصائص والتمظهرات". يقول عنه: "حاولتُ بسط مختلف التّجارب والرّؤى التّجديدية في حقل علم الكلام المعاصر. متعرّضاً إلى طبيعة العلاقة الجدلية، التي تحكم علم الكلام الجديد بفلسفة الدّين والإلهيات الغربية. وكيفية استفادة علم الكلام الجديد من الهرمنيوطيقا كمقاربة في قراءة النّص الدّيني".

هنا سألناه عن الدّافع من اختيار هذا الموضوع وعلاقته بالسّياق الجزائري؟ يردّ بوخالفة في حديثه إلى "العربي الجديد" بأنّ الخطاب الإسلاميّ التّقليديّ يبدو قلقاً، وليس في مقدوره تقديم إجابات تقارب سؤال المؤمن اليوم، بقدر ما تخلق حالة من الانفصام والشيزوفرينيا في حياته، "فنجده يتمنطق بمقولات دينية تعود إلى القرون الوسطى، وفي الآن ذاته يمنّي النفس بأن يخطّ مسار حياته بطريقة حداثية".

وعن حرية اختيار مواضيع البحث في أقسام الفلسفة، يقول بوخالفة إنّها متوفرة ما عدا تلك التي تعالج الإشكالات ذات العلاقة بالدّين، مثل العلمانية والإسلام السّياسي والحداثة. يُعطي مثالاً: "ينظر بعض الأساتذة إلى طروحات محمّد أركون وعبد المجيد الشّرفي وعبد الكريم شروس، على سبيل المثال، باعتبارها تفكيراً تغريبياً يُحاول تخريب المنظومة الدّينية من الدّاخل".


بديل ميداني

في ظلّ الوضع الجزائري الذي لا يوفّر للفلسفة مناخاً صحياً، بادرت مجموعة من المشتغلين بالبحث الفلسفي في الجزائر عام 2012 إلى تأسيس "الجمعية الجزائرية للدّراسات الفلسفية"، لتحقيق جملة من الأهداف يُجملها الباحث وعضو الجمعية، عبد النّور شرقي، لـ"العربي الجديد" بالقول: "التّعريف بأعلام الفكر الجزائري، وإنتاجاتهم الزّاخرة بالقيم الإنسانية والحضارية، والعمل على إخراج الفلسفة من أسوار الجامعة، من خلال ربطها بالمعيش وخلق فضاءات حوار قريبة من المجتمع، ونشر ثقافة التّسامح والعيش المشترك وتقبّل الآخر، وربط التّفكير الفلسفي بالحقول الأخرى مثل الأدب والسّينما والاقتصاد والتّاريخ والنّقد الثّقافي والسّياسة".

بَعثت الجمعية، خلال سنواتها الخمس، فروعاً لها في 35 محافظة، ومؤتمراً دولياً تثميناً لـ "اليوم الوطني للفلسفة"، ومجلّة محكّمة نصف سنوية، وأبرمت عدّة اتفاقيات تعاون مع وزارة الثقافة ووزارة التعليم العالي ووزارة التربية، "لتعزيز أسئلة التّواصل الثّقافي والعيش المشترك والدّرس الفلسفي". ويختم شرقي بالتّساؤل: "لماذا لا نتحلّى بروح المبادرة، ما دامت الفلسفة أصلاً تفكيراً حرّاً؟".

المساهمون