كافكا.. مئة عام على "رسالة إلى الوالد"

10 نوفمبر 2019
(فرانز كافكا وهو طالب جامعي عام 1906، Getty)
+ الخط -

اليوم، العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، بلغت "رسالة إلى الوالد" لـ فرانز كافكا (1883 - 1924) عامها المئة بالتمام والكمال. بدقّة أكبر: بلغ بدء ميلادها مئة عام؛ إذ في مثل هذا اليوم بدأ كافكا بكتابتها وأنهاها بعد أربعة عشر يوماً؛ أي في الرابع والعشرين من الشهر نفسه.

كتبها بخط يده بقلم حبر رفيع أسود على 103 صفحات. لذا جاء تصويرها بالتقنيات الجديدة بعد ثلاثة أرباع القرن من كتابتها تصويراً ناجحاً بشكل فائق. كان كافكا، حين كتب هذه الرسالة الطويلة جداً، في السادسة والثلاثين من عمره، ووالدُه في السابعة والستّين.

بعد رحيل صاحب "المحاكمة"، أخذ ماكس برود الرسالة وأوراقاً أخرى من غرفة كافكا في منزل أهله. وفي عام 1953، أي بعد كتابتها بأربعة وثلاثين عاماً، نشرها لأوّل مرة، لكن ليس بكاملها.

لاحقاً اشترت دار نشر "هوفمان أوند كامبي" في هامبورغ مخطوطة الرسالة وقدّمتها في عام 1984 إلى "أرشيف الأدب الألماني" في مدينة مارباخ كهبة إعارة دائمة. وحُفظت في "متحف الخالدين" المخصّص لجمع مخطوطات الآثار الأدبية المكتوبة باللغة الألمانية في العصر الحديث. والهدف من ذلك هو وضع هذه الوثيقة المهمّة تحت تصرُّف الباحثين والمؤرخين من أجل تقييمها علمياً.

علبة طويلة مسطّحة مكسوة بقماش كتّان أسود. تفتحها، فتجد مخطوطة أصلية اصفرّت أوراقها، انثنت زاوية إحداها، أو أصاب ثانيةً تمزّقٌ طفيف، أو وقعت على ثالثة نقطة حبر. لا، ليست هذه المخطوطة هي الأصل نفسه، بل هي صورة طبق الأصل صُوّرت بشكل فنّي متقن.

في عام 1986، نُشرت "رسالة إلى الوالد" بهذه الطريقة غير المألوفة. ليس على شكل كتاب، بل على أوراق منفصلة يبلغ عددها مئة وثلاث ورقات تحوي صوراً للمخطوطة الأصلية بخط يد كافكا. وإلى جانبها وُضعت في العلبة الجميلة نسخةٌ من كتاب صغير مطبوع يضمّ دراسة أعدّها الكاتب والناشر يواخيم أونزلد. لكن عيب هذه الطبعة/ العلبة كان ثمنها، إذ كان ثمن النسخة الواحدة منها يبلغ 700 مارك ألماني (350 يورو).

في عام 1994، صدرت هذه الطبعة الفاخرة على شكل كتاب يتألّف من ثلاثة أقسام. يضمّ القسم الأول صوراً طبق الأصل للصفحات المئة والثلاث بخط يد كافكا. ويضم القسم الثاني نص هذه الصفحات مطبوعاً طباعة عادية نقلاً حرفياً عن الصور. والقسم الثالث هو نص الدراسة التي وضعها أونزلد. ويبلغ عدد صفحات الكتاب 238 صفحة من القطع الكبير.

"الوالد الأعز، سألتَني مرّةً، مؤخّراً، لماذا أدّعي أنني أخاف منك. ولم أعرف، كالعادة، أن أجيبك بشيء؛ من جهة بسبب هذا الخوف نفسه، الذي أستشعره أمامك، ومن جهة أخرى لأن تعليل هذا الخوف يتطلّب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أجمّعه إلى حدّ ما في الكلام. وعندما أحاول هنا أن أجيبك كتابةً، فلن يكون الأمر إلا ناقصاً كل النقص، وذلك لأن الخوف - ونتائجه - يعيقني إزاءك في الكتابة أيضاً، ولأن حجم الموضوع يتجاوز ذاكرتي وعقلي كثيراً".

هكذا يبدأ كافكا "رسالة إلى الوالد" وكأنه يقول على لسان الأب: أنا هرمان كافكا إذا لم تعمل كما أشاء، فأنت حشرة ضخمة. وأنا فرانز يوزف إمبراطور النمسا إذا عارضتني، فأنت جرثومة. هنا يمكن أن نفهم كيف أن انمساخ غريغور سامسا إلى حشرة لم يكن حلماً ولا خيالاً، بل كان واقعاً استقاه كافكا من فم والده. هكذا هو أدب كافكا: ليس خيالياً ولا كابوسياً، بل واقعياً. يصف الواقع عبر صور شعرية.

وُلد هرمان، والد كافكا، عام 1852 في قرية شمال براغ، وارتاد مدرستها الابتدائية مدّة أربع سنوات. وكان هذا هو تحصيله التعليمي الوحيد. عاش في القرية حتى بلغ سن العشرين. ومنذ طفولته عمل في دكّان والده الجزّار. بعد تأديته خدمة عسكرية انتقل إلى براغ، وعمل مندوباً تجارياً متجوّلاً (لاحقاً أعطى ابنه هذه المهنة لغريغور سامسا في قصة "الانمساخ" الطويلة). بعد زواجه أسّس متجراً معتمداً على المبلغ الذي جلبته زوجته إلى الزواج. في مدّة قصيرة نجح المتجر وبات يبيع بالجملة سلع موضة وأقمشة متنوّعة، ويعمل فيه خمسة عشر عاملاً، وأمسى صاحبه ثرياً نوعاً ما.

طبعاً أراد التاجر الأمّيّ أن يورّث متجره الناجح إلى ابنه الوحيد ليعمل على إنجاحه أكثر. هنا اصطدم عالَمان لا يلتقيان. عالم الحياة البورجوازية وعالم الفن. عالم القمع وعالم الحرية. فنشأت "رسالة إلى الوالد" وغيرها من آثار أدبية خالدة.

في أيلول/ سبتمبر 1919، نشب نزاع عنيف بين كافكا ووالديه. كان الوالدان يعارضان بشدّة زواج ابنهما المخطَّط له مع يولي فوريتسك، التي كان قد تعرّف إليها في الشتاء قبل ذلك. هذا النزاع دفع الوالد إلى إطلاق أقوال مهينة بحق ابنه، فقد عرض عليه أن يقوده إلى بيت دعارة، كي لا يضطرّ إلى الزواج من "أية" فتاة.

هذا الحادث أثار غضب كافكا على نحو بالغ ودفعه إلى محاولة وضع علاقته المتوتّرة دائماً مع والده على أساس جديد. كتب هذه الرسالة خلال أسبوعين في شيليزين حيث كان يقيم للاستشفاء.

خاف من غضب الوالد إذا سلّمه الرسالة، فعمد إلى إعطائها لوالدته كي تسلّمها إلى زوجها. قرأت الرسالة ولم تسلّمها إلى المرسلة إليه. وإلا كان مزّقها "مثل سمكة"، ولما وصلت إلينا.

في العام التالي، فكّر كافكا بأن يسلّم الرسالة إلى المرسلة إليه، لكن شكوكاً ساورته في أن توصل هذه الوثيقة إلى تفاهم مع الأب، ناهيك عن تصالح. بات كلّما ابتعد عن السبب المباشر لكتابة الرسالة يدرك أكثر أنها نص سِيَرَ ذاتي لا يحتاج إلى شخص واقعي يستقبلها.

الصفحة الأخيرة من "رسالة إلى الوالد" بخط يد كافكا، كتب هذه الصفحة في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1919. لا تنتهي هذه الصفحة الأخيرة بـ "المخلص" أو "ابنك"، بل بـ "فرانز". هذا التوقيع يختصر الرسالة التي تقع في 103 صفحات.


* كاتب ومترجم سوري مقيم في ألمانيا
** يمكن وصف المترجم السوري إبراهيم وطفي (مواليد طرطوس عام 1937) بأنه مترجم كافكا ودارسه الأول في اللغة العربية، إذ كرّس له مسيرة حياة تمخضت عن ترجمة ونشر معظم آثار كافكا بالعربية، إلى جانب مجموعة من أبرز الدراسات حول أدب صاحب "الانمساخ". يقول وطفي عن علاقته بكافكا: "لم أعرف مثل هذا التماهي مع شخص آخر أو حالة أخرى... إنه أقرب شخص إليّ ممن تعرفت إليهم طوال حياتي، شخصياً أم قرائياً".

المساهمون