يذكر "واصف جوهرية" في مذكراته (التي كتبها عن القدس أثناء الحكم العثماني ثم أثناء الاحتلال الإنكليزي) أن من أول القوانين التي وضعها الإنكليز عقب احتلالهم فلسطين في نهاية الحرب العالمية الأولى، كان القانون المتعلق بدخول باحة الأقصى، حيث حددوا أياما للمسلمين وأياما للمسيحيين وأياما لليهود، والذي كان من أخبث القوانين وأكثرها تمزيقا للمجتمع إذ يزرع بذور الطائفية. أما التبرير الذي أعطاه الإنكليز لوضع ذلك القانون فكان "ضمان حقوق الجميع"!
عبر أكثر من 1300 سنة كانت باحة الأقصى مفتوحة للجميع. كان أهل القدس يذهبون إليها متى شاؤوا، حيث كان التحادث والتفاعل وجها لوجه – أي التجاور – الوسيلة الرئيسية للتعارف وجدل نسيج فيما بينهم، وحيث كان أطفالهم يلعبون معا. بعبارة أخرى، كان التجاور لا التحاور هو الوسيط الذي يتعلم عبره الناس، عن بعضهم بعضاً وعما يجري من حولهم، مما كان يجدل نسيجا في المجتمع على أصعدة شتى. تحويل المجاورة إلى محاورة – ربما يبدو بريئا على السطح – إلا أنه عملٌ خبيثٌ في العمق. فالحوار عادة يتكون من ألفاظ وكلمات لا ترتبط معانيها بفِعْلٍ وسياق ولا تتكون نتيجة تأمّلٍ واجتهاد، مما يؤدي عادة إلى تنافر وتباعد ومشاعر سلبية، إذ تتحوّل في أغلب الأحيان إلى حرب ألفاظ واتهامات مرتبطة بقناعات تدّعي العالمية لدى كل طرف.
كانت العائلة عبر التاريخ أول مجاورة يعيشها الطفل، لكن أخذت حديثا بالضمور كمجاورة هامة في حياة الإنسان لأسباب كثيرة منها التواصل الإلكتروني. أهم الفترات التي عشتها وخبرتها، والتي شكّلت المجاورات فيها شريان حياة المجتمع وحيويته، كانت خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1991). تكوّنت خلال السبعينيات مجموعات/ مجاورات عديدة بشكلٍ ذاتي تلقائي نتيجة حرب 1967 ونتيجة إخراج المنظمة من الأردن عام 1971، ونتيجة شعورنا – نحن الذين كنا نعيش في الضفة الغربية وغزة – بأن ملاذنا وحمايتنا يكمنان في العلاقات فيما بيننا. تكونت تلك المجاورات من مريدين ومرادين، دون سلطة داخلية أو خارجية، وسارت وفق انتباهٍ شديد للواقع الذي كنا نعيشه ووفق تأملٍ فيه واجتهاد في فهمه، ووفق قيمٍ تتوافق مع عافية الإنسان والمجتمع.
من أول المجاورات التي تكونت في تلك الفترة كان العمل التطوعي الذي بدأ بالتكون في نهاية عام 1971 والذي كان بمثابة مجاورات تكونت وحكمت عملها ذاتيا. إلى جانب العمل التطوعي تكونت فرقة بلالين المسرحية، وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية، ومجاورات في مجالات تربوية كان من بينها نوادي العلوم والرياضيات في المدارس وفرق معلمين في مجالات عدة. أهم ما ميّز تلك المجاورات الربط بين الفكر والقول والعمل وفق قِيَمٍ اختارها المتجاورون مما عَكَس صدقا واحتراما.
المجاورة هي اللبنة البنيوية الأساسية في المجتمع التي تتضمن صدقا واحتراما وحيوية ومساواة وتربط الفكر والقول والفعل وحيث يمكن للمتجاورين أن يختاروا العيش والعمل والتعامل وفق الحكمة. أي بنية في المجتمع تضيف أبعادا تُغْني وتغذّي المجتمع لا ضرر منها شرط ألا تكون بديلا للمجاورات، إذ إذا كانت، سيفقد عندها الأشخاص والمجتمع مناعتهم الداخلية ويصبحون معرضين لأمراض وأوهام وخرافات ترتبط بقيم السيطرة والفوز وتكون بمثابة ملهيات تلهينا عما هو جوهري.
المجاورة هي الوسيط الأمثل للتعلم والعمل المجتمعي؛ هي طريق الحكمة وحاضنتها. هي شريان الحياة والعافية، وهي طريق الكرامة والمساواة والتعددية. تتطلب المجاورة تأملا واجتهادا وجدْلا للنسيج في المجتمع على شتى الأصعدة. لذا، ضروري أن نكون حذرين من أن تحتل المؤسسات محل المجاورات. لن نستطيع إلغاء المؤسسات بل نستطيع – وضروري جدا – ألا نتعامل معها وكأنها الأساس والمرجع والمعيار. كما يمكن في بعض الأحيان حتى أن نرحّب بها إذا كانت تضيف دون أن تسلب.
* كاتب وتربوي فلسطيني