سورية الكتابة: خارج وداخل أسوار الجحيم

29 اغسطس 2016
("تامر"، عمرانوفي/ سورية)
+ الخط -

تغدو الكتابة في الحالة السورية وعنها خلاصاً لدى البعض وزيادة في جرعة العذاب لدى البعض الآخر؛ هذا الانقسام ما بين الداخل السوري والخارج (الأوروبي) بات يشكّل ثنائيةً ناجعة للولوج إلى عوالم الألم السوري كتابةً.

أسّس اندلاع الحراك مع مرور الأيام لشرخٍ أصاب الكتابة السوريّة، حريّة، غير أنّها تنطوي على انقسامٍ ما، وفي الوقت نفسه باتت كتابة الجرح لها نظرتها المغايرة، الكتابة تجسيداً للخلاص لمن هم في جحيم الداخل السوري وتمثيلاً للمشاركة في الثورة أو ربمّا التضامن لمن هم في الخارج.

ولكن هل ثمّة دلالة لكتابة الألم سوريّاً؟ هل تكفي أطنان الأقلام وآلاف النقرات على ألواح مفاتيح الحواسيب الشخصية حول العالم للكتابة عن سورية؟ ثمّ ما الفائدة المرجوة من كتابة الألم السوري سواء كان المنتوج الأدبي عن سورية وليداً في الداخل أم وافداً من الخارج؟

من خلف أسوار الجحيم

"منذ دخلت الحرب سورية، وبدأ المحاربون بمهامهم الأزلية؛ حيث بنوا قلاعاً من الجحيم، وأسواراً أبدية من الحزن والتعب والدموع والحنين، تلاشت الكتابة لدي في بدايات الذبح والتشرد والنيران، كان الذهول سيّداً على كل شيء"، يقول الشاعر السوري محمد بيجو المقيم في مدينة القامشلي، شمالي البلاد على الحدود السورية التركية، والتي تشهد معارك طاحنة بين وحدات حماية الشعب الكرديّة وبين أخطر تنظيم إسلاموي متشدّد على الإطلاق، وحيثُ الأوضاع المعيشيَّة في تردٍ مستمرّ والصراعات الداخليَّة في أوجها، سواء من الناحية الثقافيَّة أو السياسيَّة، ومن أمام مكتبته الصغيرة التي تحتوي قرطاسيَّةً وحقائب مدرسيَّة في إحدى شوارع المدينة، متابعاً يقول: "وجدت صعوبة في التعبير، غير قادر على التفكير في جسد بلا رأس، وجدت صعوبة بالغة في أن أكون عاقلاً في كتاباتي مع الحرب، وعليّ في أوقات كثيرة أن أتقمص دور حفار القبور أو الدم الغالي الذي يسيل بين الرماد، أو حتى دور الرصاصة التي أخطأت مسارها، فهوَت في فراغ كأنها لم تكن".

بينما يرى الروائي حسين زيدو المقيم في القامشلي أيضاً أنّ الكتابة عن سورية في الزمن الرّاهن تعني: "تعريفَ العالم، والبحث عن الدواء للوجع السوريّ، كما تعني أيضاً رسم لوحة سورية المستقبل برضا الجميع، سورية التي ستكونُ خاليةً من الصراع الدموي الذي نعيشه".

ومن دمشق، حيثُ رتابةُ الحواجز والصراعات غير الظاهرة للعيان، يقول الروائي السوري مناف زيتون "كسوريّ أن تكتب عن الألم اليوم يعني أن توثّق حياتك اليوميَّة وبالتالي الخروج عن الحالة العامّة للألم الذي يفترض به أن يكون حالة طارئة متمايزة عن حالة اللا ألم الطبيعية"، ويضيف "أستغرب الفصل الذي يدفع البعض للاعتقاد أنّ الكاتب ليس صحافيَّاً ولا مخرج وثائقيات، ربمّا التورية هي الخيار المحترم أدبياً بالنسبة إليّ، لا لكونها تتيح التعميم أو التبنّي من قبل الشعوب المنكوبة مستقبلاً فحسب، بل أيضاً لأنها أقدر على توضيح دخيلة الأفراد، توصيف المستوى الصامت من آلامنا غير المذكور في نشرات الأخبار وصور الوكالات بما يتجاوز التصوير المكرور للبؤس، وكأنّنا نسخ تتألم بذات الطريقة وذات الكلمات ولا حاجة لأكثر من تقرير من عشر دقائق أو فيلم وثائقي من ستين دقيقة لنفهم آلام الجميع دفعةً واحدة!".

الحرب التي في الداخل السوري جعلت من النخبة المثقّفة التي بقيت، جماعةً منقرضة أو ربمّا في دربها نحو الانقراض، منزوية على نفسها دون أيّ سند سوى الأوهام والخيالات الأدبيَّة التي ترسمها الحرب بقساوتها اليوميَّة، كل ذلك يدوّن على شكل نصوصٍ سوف ترى النور في مرحلة ما بعد الثورات كما جرت العادة.

الخارج المتألّم

للسوريّ الخارج أيضاً حكايته – أدبيَّاً - فالعديد من الكتّاب الذين غادروا سورية كانوا نشيطين من ناحية العمل الأدبي والثقافي في الفترة التي سبقت اندلاع الثورة في سورية واضطراب الأوضاع إلّا أن سوء الأحوال دفعهم إلى مغادرة البلاد ومعاودة النشاط من هناك، وبصدد الكتابة عن سورية يقول الشاعر رائد وحش المقيم في برلين "الدم ورطة، وكما في الواقع كما في الأدب، سيكونُ شاقاً للغاية أن تتخلّص الكتابة السورية منه قبل عقود"، ويعلَّل وحش "الدم الذي يسيل من القصائد ينافس في العدد الدمَ الحقيقي الذي تنزفه الأجساد، لكن شتّان بينهما، ما ننتظره فقط هو أن يتمّ تنظيم هذا الألم في النصّ السوري الجديد بعيداً عن التفجع والميلودرامية وأن يتحول هذا العسف الذي نعيشه محاصرين وخائفين ومطرودين إلى مادة تراجيدية".

وبعد رحلةٍ طويلة مع الألم، كتابةً وحياة حقيقيَّة، داخل سورية يرى الروائي السوري نبيل الملحم المقيم في برلين أنّ: "الكتابة من خارج سورية وداخلها سيّان، هي كذلك لأن سورية بالنسبة إليّ ليست بلداً متخيلاً، هي حقيقة أعيشها مع كل لحظة من دمارها ونزفها وضياع ناسها، وبؤس ما تبقى من أملٍ في انتشالها"، ويمضي الملحم "الكتابة ليست سوى هدر المعنى، فالمعنى كل المعنى في اللحظة السورية هي لمن يحمل لها الموت لا لمن يحمل إليها القصيدة أو شغف العشاق، تلك حقيقة جديّة بالنسبة إلى السوري وقد باتت بلاده ملعباً للعالم، هي لعبة الأمم وأية أمم؟! أمم تجّار السلاح، ومورّدي الكراهية ومصدّري الأعضاء البشريَّة، في سورية أم خارجها الأمر سيَّان" ويضيف "أنت لست سوى متفرج على مشهد لن تكون لك حصّة من الشراكة فيه، أنت المتفرّج أو المقتول".

بينما ينظر الشاعر ومخرج الأفلام الوثائقية السوريّ الشاب والمقيم في برلين كذلك دلير يوسف إلى الكتابة عن سورية على أنّها "طريقة ربمّا لتفريغ الألم والعجز الذي أعاني منه كوني أعيش في المنفى، هي – أي الكتابة - الطريقة الوحيدة للتواصل مع سورية التي لا أستطيع أن أتفاعل معها سوى عن طريق الكتابة أو صناعة الأفلام، ليس بمقدوري السير في الشوارع السورية ولا الحديث مع سوريين في سورية إلّا باللجوء إلى هذه الطريقة"، ويكمل "كل ما نكتبه يساهم في رفد وصناعة ثقافة سوريَّة والنقاشات التي تُثار بسبب الكتابة قد تساهم في بناء المجتمع/ المجتمعات في سورية".

آلافُ النصوص كتبت في الحالة السوريَّة وعنها، وآلافُ الجثث أيضاً ووريت الثرى إبّان الثورة، لكن اقتراب النصوص من الألم السوري الذي طال، باتَ مسألةً شخصيَّة يحددها القارئ السوري ذاته ولا أحد غيره.


المساهمون