في عشرينيات القرن الماضي، كانت النهضة العربية لا تزال حراكاً في طور الإنجاز، ولم تَصِر بعدُ موضوعاً للنقد ولا للتجاوز. كانت رهاناً في خِضمّ معركة شرسة، يخوضها التحديثيون في مواجهة المحافظين وليس واقعاً منتهياً. كان رُوّادها، من الفريقيْن، يتعثرون وينهضون ضمن فعلٍ تجريبيّ استكشافيّ، دون أن يتحوّل فعلُهم ذاك إلى موضوعٍ للمُراجعة والتحليل. تباينت تياراتُهم الفكرية وتضارَبت في محاولة استبانة أسباب التخلف الحضاري وتشخيص وسائل الخروج منه. وشملت رقعة تحركاتهم كافّة أرجاء الوطن العربي. ولكنَّ النهضة، وربما بسببٍ من ترامي مجالاتها، لم تتمكن من أن تتحوّل إلى نقدٍ للذات واستعادةٍ لمُصادراتها وأسُسها بهدف مُراجعة الجذور والمآلات.
الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة نجده في كتاب "أسباب النهضة العربية في القرن التاسع عشر" (طبعة أولى سنة 1926، التي استعادتها "دار الجديد" سنة 2010 ضمن سلسلة: طِبق الأصل). وهو من تأليف الكاتب اللبناني أنيس زكرياء نصولي (1902-1957)، والذي اشتهر بأبحاثه التاريخية عن الدولة الأموية. ففي بادرة لم تخلُ من الجرأة وَقتها، تَصدَّى نُصولي الشاب إلى تاريخ النهضة العربية إبَّان القرن التاسع عشر، في محاولة تراوح بين النقد والتأريخ، بين الاستعراض والاستكشاف، ليقف على الأسباب التي ساهمت في ظهور هذه الحركة الفكرية وانتشارها في أنحاء الوطن العربي، الذي كان يرزح عصرئذٍ تحت نير الاستعمار.
وينبغي أن تفهم كلمة "أسباب"، الواردة في العنوان، بمعناها الشامل أي جملة العوامل والظروف والمؤثرات التي ساهمت في إيجاد هذه الصحوة الفكرية بعد سُبات القرون الماضية، فيسَّرت الالتقاء بين الثقافة العربية التقليدية وقيم المُعاصرة.
وقد لخّص صاحب "الدولة الأموية في الشام" هذه العوامل في ثمانية أبوابٍ، معتبراً أنَّ كلَّ واحد منها قد أثّر، إلى حدٍّ ما، في استفاقة العرب. وهذه الأسباب هي على التوالي: الاحتكاك بالغرب، المدارس، الطباعة، الصحافة، التأليف، المكاتب (أي: المكتبات)، الاستشراق، التمثيل، والمُهاجرة (أي: الهجرة إلى الغرب). وبعدها، حلل بمنهج تاريخي كل ظاهرة على حدة، مُبرزاً تطوراتها وآثارها في تشكيل الوعي الحديث، مقدماً بين يديْ عرضه كمّاً كبيراً من المعلومات التي استقاها من المصادر العربية والأجنبية، وكذلك من معاشرته الشخصية لأعلام النهضة الذين جايَلهم.
كُتب هذا النصُّ بأسلوب واضح، يكاد يكون تعليمياً، وخلا من كل التعقيدات البلاغية، واقتصر على الوصف الدقيق لهذه الحركة المعقدة، متخذاً بذلك مسافةً كافية لاستعادة هذه الوقائع واستعراض العلاقات السببيّة بينها وبين تطلّع العرب إلى ولوج الحداثة. والكتاب، على قِصره ووضوحه، يمكن أن يعدُّ من أقدم المراجعات التي أنجزت حول النهضة الفكرية العربية قَبل أن تتحوّل هذه الأخيرة إلى موضوع للنقد والتحليل، مثلما حصل مع ألبير حوراني ومحمد عابد الجابري وكمال عبد اللطيف وغيرهم كثير. فهي الاستعادة الأولى التي حَصلت أثناء المعركة وفي أوجها، عبر تحليل الأسباب الداعية إليها والكشف عما ظهر فيها من التناقضات والمفارقات، فضلاً عن إيراد كمٍّ لافتٍ من التفاصيل والجزئيات المُوثقة التي تُفيد في كشف الستار عن أهمّ حركة ذهنية في العصر الحديث.
ويُؤخذ على هذا البحث تركيزهُ على العوامل الخارجية وربط النهضة أساساً بالغرب كما لو كان البذرة الأولى والمهد الرئيس لاستفاقة العرب، في حين أنّ هذه الأخيرة تضرب بجذورها العميقة لدى مفكرين عرب لم يستلهموا كتاباتهم من الخارج، بل من الثراء الكامن في المصادر التراثية، التي اعتبروها "مرجعيتهم" الأولى في النهضة، والعبارة للجابري في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" (1994). وهذا شأن الرواد الإحيائيين قاطبةً، الذين بحثوا عن وسائل اليقظة في أمجاد الماضي.
تكاد الدراسات النقدية تُجمع على فشل حركة "النهضة"، وتهافت خطابها الذي حاول "المواءمة المستحيلة" بين مرجعيات متضاربة. ولعل هذا الكتاب يكشف لنا طبيعة العوامل التي كانت وراء فشل النهضة، أو تعثرها. فالسبب، كما سبق وقال كارل ماركس، حامل لبذور فنائه وتلاشيه، وبالتالي يمارس تأثيراً سلبيّاً وحتى استلابياً للوعي.
فحين يمدح نُصولي، مثلاً، الاستشراق وأياديه البيضاء في طبع عشرات المخطوطات، يُغفل أنه كان أيضاً من عوامل انطماس الوعي بقوة التراث وأهميته. فقد قدّم المستعربون نُصوصَه كما لو كانت مواتاً أو خطاباً كلاسيكيّاً نُخبوياً، لا صلة له بحياة الناس، في حين أنَّ نصوص التراث كانت، ولا تزال، من العوامل الرئيسة في مصالحة العربي مع ماضيه، وانطلاقه النقدي نحو المستقبل.
بهذا التأليف، يُمكن عدُّ أنيس نصولي أحد رجالات النهضة المغمورين الذين آمنوا بأهمية العلم والتعليم والصحافة، وتعلقوا بالبحث التاريخي، كاسراً للبداهات، من أجل التبصر بالسببيّة الاجتماعية وفَهم قوانين التحولات. ونراه أجاد تفهّمَ بواعث النهضة، امتدادها ثم تداعيها.