نُشر كتاب "الرحلة اليابانية" لصاحبه علي أحمد الجرجاوي، سنة 1907، أي بعد سنة من عودة صاحبه من رحلته التي دامت شهرين إلى اليابان، في قصة تستحق أن تروى.
ْفوراء ذهاب علي أحمد الجرجاوي إلى اليابان قصة فريدة، فقد عقد العزم سنة 1906 على التوجه إلى تلك البلاد، وكانت وقتها خارجة من انتصارها التاريخي على الروس، ومقبلة على حاضرها الذي كانت تريده بأفق متسع. لقد تفتق عقل إمبراطور اليابان عن أن يكون لبلاده دين موحد، يتوج الانتصار التاريخي الذي حققته إمبراطوريته ضد روسيا في 1905، فما كان من رئيس وزرائه إلا أن عمم إعلاناً في عدد من الصحف العالمية والعربية، واتصل بدول مثل الدولة العثمانية وفرنسا وإيطاليا وأميركا، داعياً إلى مؤتمر ديني كبير، يطرح فيه أصحاب الأديان السماوية أفكارهم على الشعب الياباني، وتترك الحرية لأبناء البلاد لاختيار الدين المناسب لهم ولنهضتهم الحديثة.
دعوة رائدة ومغرية سيتلقفها الشيخ علي أحمد الجرجاوي، وسيعرض أمر ذهابه على الأزهر، لكنه لم يجد منه حماساً، فما كان منه إلا أن عرج على بلدته في سوهاج، وباع فدادين من الأرض لتمويل رحلته، ثم عقد العزم على السفر، وتوجه بحراً من الإسكندرية، إلى أن وصل إلى يوكوهاما، ومن هناك إلى طوكيو عبر القطار.
ويبدو من خلال الرحلة أن الجرجاوي قد نسق الأمر مع عدد من الدعاة من الصين وتركيا سبقوه إلى هناك، وهكذا سيتاح لهم كأهل دعوة تقديم مطارحاتهم خلال هذا المؤتمر العجيب الخاص بالأديان.
طبعاً، لم يسفر المؤتمر عن اختيار دين واحد خاص باليابان، بسبب انقسام اليابانيين حول عدد من الأديان، لكن كان لهذه البعثة الدعوية التطوعية بعض الفضل في تعريف أهل البلاد بالدين المحمدي، ويقال إن نصيب الجرجاوي وحده كان إسلام أكثر من 10 آلاف ياباني على يديه، وهو تبعا لذلك يعتبر أول مصري وعربي من أهل الدعوة يصل إلى تلك الأراضي ويترك فيها بذرة من بذور الإسلام.
وبالرغم من كون رحلته في عمومها عرضاً سطحياً ومعلومات مما كان متداولاً، إلا أن بعض الفصول من هذه الرحلة يبين محاولة الرجل فهم واستيعاب هذه الثقافة الجديدة، التي شعارها الأول والأخير الصرامة والدقة والإتقان. وبفضل ذلك كانت لها الكلمة في حربها مع الروس، كما عرض بعض ملامح النهضة اليابانية، التي ظل كثير من العرب، من أهل الثقافة والفكر والسياسة العرب، يضربون الأمثال بها، ويعتبرونها قدوة للمجتمعات العربية للنهضة والتطور، والخروج من دوائر التخلف والسكون.
يكتب الجرجاوي عن بداية رحلته "في صبيحة يوم الجمعة 30 يونيو سنة 1906 أفرنكية أخذت الأُهبة للسفر، وما وصلت إلى محطة القاهرة، حتى رأيت لفيف الأصدقاء والمحبين قد جاءوا لوداعي، وما أصعب موقف الوداع وأشده تأثيراً في النفس! فكنت أطارح إخواني عبارات الوداع والدمع في الجفن حائر، حتى إذا تحرك القطار أسلمته المحاجر ولما بعد القطار قليلاً:
أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس/ تسيل من الآماق والسم أدمع.
وما زال القطار سائراً الهوينى، حتى إذا اجتاز المنحنى واستقام له الطريق أخذ ينهب الأرض نهبًا لا يُشق له غبار، وتضل دون شأوه الأنظار، وكنت في هذه الحالة أودع القاهرة وملك الفراعنة، وكلما ابتعدت عنها تضاءلت في نظري تلك الصروح الممردة والقصور الشامخات، حتى غابت عن لحظ العين ولم أعد أنظر إلا إلى منارتين يلوح للناظر إليهما من هذه المسافة أنهما ركبتا على قمة جبل المقطم، فعلمت أنهما منارتا جامع القلعة الذي أنشأه «محمد علي باشا» رئيس العائلة الخديوية الذي كانت توليته على مصر مفتتح تاريخ جديد لها".
كان من الطبيعي جداً أن يثير انتباه الجرجاوي الحياة المنظمة لليابانيين، في البيوت وفي الشارع، حيث كل شيء يخضع للانضباط التام، على غير حالة الفوضى التي تسم المدن العربية في تلك الفترة الزمنية من بداية القرن الماضي. وقد ركز في جزء من الكتاب على المرأة اليابانية. كان بالنسبة إليه كمشرقي وجود هذا الكائن الذي يتمتع بتعليم عال في طوكيو أمراً غير مألوف، حيث النساء العربيات يرسفن في الجهل ومسجونات في البيوت أو مستعبدات في الحقول وفي الأعمال الوضيعة والشاقة.
المرأة سيّدة
يكتب الجرجاوي مندهشاً ومعجباً بوضع المرأة في المجتمع الياباني: "إذا كان علماء العمران يعدون المرأة عضوا عاملاً في الهيئة الاجتماعية، ويوجبون تعليمها العلوم والمعارف لجلال مركزها، وإذا كانوا يجعلون تمدن الأمم التمدن الحقيقي متوقفاً على كمال تربيتها فإن المرأة اليابانية هي المثال الصحيح على هذه الدعوى، وإذا كانت المرأة اليابانية وصلت إلى هذه الدرجة في التربية الصحيحة والآداب الفاضلة على قرب عهدها بالمدنية، فكيف بها إذا مرت عليها القرون وهي تجد وتجتهد في هذا السبيل؟!
تُولَد اليابانية ولا تصل إلى الخامسة من سنين حياتها حتى يُدخلها ولي أمرها المدرسة، ومهما كان فقيراً ذا خصاصة في العيش، فإنه يكد ويكدح في سبيل الإنفاق عليها ويقدم الاهتمام بها على كل أمر يهمه في الحياة، حتى بلغت بهم درجة الاعتناء بتربية البنات أن يعد من لم يدخل ابنته المدرسة من أحط الناس منزلةً وأسفههم عقلاً ويصمونه بوصمة العار.
وهم ولا شك لم يقدروا المرأة هذا القدر إلا بعد علمهم بنفعها في المجتمع الإنساني، وتحققهم أن أول خطوة يخطوها الإنسان في التقدم إنما هي نتيجة ما وصل إليه في تربية أمه وتقاه عنها من المبادئ الأدبية التي غرست في نفسه بذور الفضيلة بكل أنواعها، ولو اختبرنا أحوال المرأة اليابانية في أدوار حياتها من يوم دخولها المدرسة إلى اليوم الذي تصير فيه زوجة للبعل، ومربية للأبناء نجدها عنوان الكمال والفضيلة وحسن الآداب، فالتي في مهد التربية المدرسية فهي تعرف مقدار محبة الوطن معرفة تامة كأن حب الوطن علم من العلوم التي تتلقاها في المدرسة فهي تطبِّق العلم على العمل".
زمن الحرب
تقدم المرأة في اليابان نموذجاً للتضحية في زمن الحرب، يكتب الجرجاوي "والتي حصلت منهن على العلوم ونالت شهادتها تعمل وتشتغل بما يفيدها ويفيد عائلتها في الأمور المادية والأدبية معاً، والتي تقترن منهن تكون في بيتها مدبِّرة محسنة حالتها وحالة بعلها المعاشية بفضل ما تتلقاه من العلوم، والآداب، وأنواع الكمالات، والتي ليس لها بعل ولها أولاد تقوم بتربيتهم أحسن تربية حتى تؤهلهم إلى أن يكونوا سعداء في الحياة، وهكذا تجد المرأة اليابانية في كل أحوالها وأطوارها مثالاً للعفة، وكرم النفس، وغير ذلك من الصفات الممدوحة.
وقد ظهرت آثار تربية المرأة اليابانية في الحرب الأخيرة فإنها أظهرت من محبتها لوطنها ما لا يُظن أن امرأة في العالم غير اليابانية تظهره مهما كانت منزلتها في التربية والتعليم.
ومثال هذا أن التلميذات منهن لما كن يفرغن من دروسهن يشتغلن الأكسية، والأربطة، وكل ما يقدرون على صنعه من الملابس العسكرية ويقدمنه إلى جمعية الصليب الأحمر التي كانت يوجد فيها أطباء لمداواة جرحى الحرب".
وقد قدمن كثيراً من صنع أيديهن عند سقوط بورت آرثر، واهتممن بذلك كل الاهتمام؛ حيث الجرحى في هذه الواقعة كانوا يعدون بالآلاف، هذا فضلاً عن اشتراكهن مع الرجال في كل احتفال أو مظاهرة بخصوص الانتصار على الروس، مما لا يفوقهن فيه الرجال بشيء من الأشياء.
الصحافة المسؤولة
يصف الجرجاوي الصحافة اليابانية بأنها صحافة مسؤولة لا تنجر إلى الإثارة، وترجح المصلحة الوطنية على ما سواها، ويسوق واقعة المؤتمر الديني، الذي حضره، والذي أحجمت الصحف المحلية عن تغطيته، حتى لا تتفشى فرقة دينية بين طوائف المجتمع الياباني ولا تستيقظ الأحقاد.
ويقول الجرجاوي إن الصحافة اليابانية صحافة حرة، وهي حين تفعل مثل هذا، لا تسعى إلى حجب الحقائق، ولكن إلى تجنب إثارة الفتنة.
يكتب: "إذا كانت الصحافة في كل أمة هي عنوان تقدمها، ودليل ارتقائها، فإن لها في اليابان التأثير الأقوى في تقدم هذه الأمة، وقد عرفت ممن عرفتهم من الصحافيين هناك أن اليابانيين زاد اعتناؤهم بأمر الصحافة من عهد الحرب الصينية الأخيرة التي انتصر فيها الجيش الياباني انتصاراً باهراً، وسطرت الصحف في العالم عبارات الثناء عليه وعدته من أرقى جيوش الدول دربة، وأقواهم بطشاً، وأضافت إلى ذلك مدح الأمة بأسرها فزادت رغبة القوم في قراءة الصحف وأقبل الكتاب والأدباء على الاحتراف بحرفة الصحافة.
والصحف في اليابان كما هي في سائر الأمم الراقية من حيث النوع والمشرب؛ فمنها اليومية، والأسبوعية، والمصورة، والهزلية، ولكن المشارب وإن كانت مختلفة فإن هذا الاختلاف كله راجع إلى مصلحة الوطن بحيث لا يُسمع بجريدة مشربها المطاعن الشخصية، ولا يوجد صحافي دخل السجون بسبب الطعن الشخصي إلا القليل، والقليل لا حكم له.
أما المجلات فهي عديدة هناك منها الشهرية والنصف شهرية والأسبوعية، والذي نظرته أن أغلب الجرائد السياسية الكبرى تصدر في طوكيو عاصمة المملكة... والجرائد الهزلية كثيرة إلى درجة فوق العادة والإقبال على مطالعتها عظيم من سائر الطبقات، وقد عرفت أيضاً أن أخبار المؤتمر الديني كانت بعيدة عن علم أصحاب الجرائد أيام انعقاد جلساته، فعجبت من ذلك ولكن التمست العذر للحكومة؛ لأن من اليابانيين من اعتنق الدين الإسلامي ومنهم من اعتنق المسيحية، ومنهم البوذيون والوثنيون، فإذا نشرت المحاورات والمناقشات التي دارت بين أعضاء المؤتمر المنتدبين من الدول لا يُؤمن من تولد الأحقاد في نفوس أهل المذاهب الدينية".
الشرطة غير فاسدة
يسرد الجرجاوي قصة الأم التي قتلت نفسها حتى لا يحرم ابنها من الذهاب إلى الحرب، بحجة البقاء لرعايتها، لقد وضعت الوطن فوق حياتها وفوق مشاعرها كأم، واعتبر أن هذا أكبر مثال على تقديس الوطن والوفاء له، يقول "قد ذكرنا في غير هذا الموضوع خبر المرأة اليابانية التي أمرت ولدها الوحيد بالتطوع في الحرب ولما لم تقبل منها الحكومة تطوعه لكونه وحيدها، قتلت نفسها بالسكين أمامه حتى لا يكون هناك عائق يمنعه عن التطوع في خدمة الوطن التي هي من الواجبات المفروضة عليه.
هذا ما وصلت إليه المرأة اليابانية بفضل التربية والتعليم، والمرأة الشرقية قد امتازت بمزية السبق في ميدان الحضارة على غيرها من نساء الأمم الأخرى، ولكن إذا صادفت من يعتني بشأنها؛ إذ الاستعداد موجود فيها والقابلية لتأثير التربية الفاضلة متوفِّرة عندها، وهي أذكى من المرأة الغربية بحسب الفطرة ولنتخذ مثالاً على ذلك نساء العرب في العصر الأول فإنهن كن على جانب عظيم من حيث أدب النفس وكمال العقل، ولهن محاورات ومخاطبات مع الملوك والأمراء وكن يظهرن فيها من البلاغة وحسن البيان ما لا يقدر على الإتيان بمثله في هذا العصر أعلى البلغاء كعباً وأكمل الناس عقلاً".
شيء آخر سيثير الجرجاوي، هو المتعلق بالنظام العام، والشرطة التي تشرف على حماية هذا المجال المشترك بين الناس وعموم المواطنين. لقد أدهشه رجل الأمن الياباني، فتذكر حال الشرطة العربية التي تمضي وقتها في معاكسة الباعة الصغار ومطاردتهم والارتشاء من المحال، يقول "البوليس الياباني من أرقى بوليس في العالم في الأدب، ومعرفة الواجبات، ومن غريب ما رأيت في نظام البوليس هناك أن كل عسكري يحمل معه مذكرة غير التي يذكر فيها الوقائع والحوادث، وهذه المذكرة فيها أسئلة وأجوبة مطبوعة، وهذه الأسئلة والأجوبة كلها فيما يتعلق بالوطن، ومكارم الأخلاق، كأن يذكر في السؤال مثلاً ماذا استفدت من هذه الحرب الروسية اليابانية؟ وماذا يجب على الفرد من الجنود إذا طرقت الحرب أبواب البلاد؟ وماذا يجب على القائد أن يفعله؟... وإلخ، وهذه من الاختراعات البديعة في نظام البوليس وفي تربية نفوس القوم على حب الوطن.
ومما يوجب الإعجاب بحرص القوم على الأمن أن البوليس إذا وجد غريباً يشتري بعض الأشياء يراقب حركاته، وسكناته في حالة الشراء، ويعرف مقدار المشترى إن كان بالوزن أو الكيل أو غير ذلك ويصرف مقدار الثمن ثم يعد النقود التي مع المشتري وهكذا.
َوذلك أني ابتعت بعض الفواكه من حانوت فكهاني فجاء البوليس وعد النقود التي أخذتها بعد خصم ثمن المبيع، وكنت أعطيت البائع قطعة ذهب قيمتها نصف جنيه أفرنكي، وعرف ثمن مقدار ما اشتريته من الفواكه، فتذكرت في الحال بوليسنا المصري ووددت أن يكون عنده بعض الشيء من هذه الفضائل بدلاً من أن يجعل سلطته منحصرة في معاكسة الحوذية، وصغار الباعة في الشوارع والارتشاء من المحال التي تحوي المقامرين وغيرهم من عوامل الإفساد في البلاد، وفَّقه الله على سنن الاستقامة وأخرج رجاله الجهلاء الخونة ليسود الأمن في البلاد".