مع مطلع الألفية الثالثة، بدا وكأن المؤسسات الفنية في خضم طفرة بناء على مستوى العالم، حيث باتت معاقل الفن في ازدياد، وبشكل خاص المتاحف التي بدأت تتكاثر في كلّ مكان وفي صور جديدة، في أوروبا وأميركا والخليج والشرق الأقصى وحتى أقصى الشمال وكذلك في شمال أفريقيا.
أما المتاحف العريقة فباتت تتوسع أو تزيد في أبنيتها، فافتتح "متحف ويتني للفن الأميركي" موطنه الجديد على ضفاف النهر، وليس بعيداً عنه "متحف ميتروبوليتان للفنون" و"متحف الفن الحديث" و"المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي" التي توسعت كلّها.
وبدأت مؤسسات ودور أزياء تنشئ متاحفها الخاصة، "برادا" في ميلانو و"لوي فيتون" في باريس، ثم نشأت سلاسل متحفية مثل "لوفر" و"غوغنهايم" في أبو ظبي، وطمعت غوغنهايم في بناء آخر في هلسنكي ولقصة هذا المشروع دلالة كبيرة على البعد السياسي لهذه السلاسل المتحفية فبعد إطلاق مسابقة عالمية أسفرت عن تصميمات تفوق الخيال، صوّت مجلس بلدية المدينة ضد المشروع وأوقف منذ عام 2016، لكن تصميم الفرنسي مورو كوسونوكي الفائز يجسّد التصوّر الكاتدرائي للمتحف بشكل كبير.
منذ أواخر التسعينيات، بدأ التفكير في توسيع مفهوم المتحف، ليتحوّل إلى "علامة" أو سلسلة متاحف تحمل الاسم نفسه في مواقع مختلفة، وقال بعض مؤرخي الفن ناقدين، إن هذه الظاهرة مشكوك فيها وفي أهدافها، واعتبرها البعض التطوّر الطبيعي لسوق الفن اليوم، والعولمة.
وإن كانت الكنائس والكاتدرائيات العريقة تأتي على قمة التسلسل الهرمي للفنون المعمارية، فإن المتحف اليوم هو الشكل الذي يحلم به كل مهندس معماري جاد في التصميم وفي وضع اسمه كعلامة على معلم عمراني للتاريخ، حتى أن مؤسسات عريقة وعائلات أوروبية ثرية معروفة بتمويل بناء الكنائس، باتت من الممكن أن تمنح اليوم الميزانية التي كانت ستخصّص في وقت ما لكاتدرائية من أجل بناء متحف.
إنها مسألة طموح معماري، فالمتاحف الفنية معمارياً باتت هي الكاتدرائيات الجديدة، وهذا هو عنوان الندوة التي يلقيها كلّ من مؤرخيْ الفن والباحثين الفرنسيين كامي لوسو، كلارا غيسلان وستيفان كرونيك عند الثامنة من مساء اليوم في مكتبة "إم كي 2" في باريس.
يبدو أن عنوان الندوة مستلهم من مقال نشره كاتب الـ "نيويوركو" و"بي بي سي" جيسن فاراغو عام 2015، تحت عنوان "لماذا المتاحف هي الكنائس الجديدة؟"، طرح فيه أسئلة حول من هم أبناء هذه المعابد الجديدة، وما نوع العبادة التي تجري فيها؟
يرى الكاتب أنه إذا أصبحت المتاحف الشكل البارز للفن المعماري اليوم، فذلك لعدّة أسباب من بينها أن التحوّلات في وضع بنية المتحف توازي الفهم المتغيّر لمكان الفن في المجتمع، ودوره في تشكيل المجتمع المعني.
ويلفت الكاتب إلا أنه وقبل الاضطرابات في أواخر القرن الثامن عشر، كان الفن العلماني في أوروبا يقع في المقام الأول في مجموعات أميرية خاصة، وفي صالات فخمة وأحياناً برسوم أيقونية على الجدران تمجّد الملوك أو الأرستقراطيين الذين كانوا يمتلكونها؛ ولم يكن لهذه الصالات وظيفة عامة، ولم تكن متاحة للجماهير.
ومع حلول القرن التاسع عشر، خاصة في إنكلترا وألمانيا، تم إنشاء المتاحف بشكل صريح لتكون بمثابة أماكن للتغيير الاجتماعي، وكذلك للتعبير عن الهيمنة على الفنون والآثار من جهة أخرى خاصة في حالة الإمبراطورية البريطانية.
لكن ما حدث في القرن العشرين، أن التأمل الجمالي أصبح فضيلة بحدّ ذاتها، وتغيّرت بنية المتحف وفقاً لذلك، وطرأت التحوّلات المعمارية التي جعلت من المتاحف تبدو مثل أماكن مقدسة مزخرفة ومهيبة.
بل إن التعبير عن تلقي الفن، وفقاً لفاراغو، أصبح يميل إلى استخدام تعابير دينية، فقد نسمع من يقول الحج إلى المتحف، أو سمو الفن، أو الارتقاء بالفن، بل وأصبحت المتاحف الأوروبية والأميركية مزدحمة بشكل خاص يوم الأحد، الذي كان يفترض أن يكون يوم الازدحام في الكنائس والكاتدرائيات.
يقول فاراغو إن شكل المتاحف اليوم ومنذ تطوّرها بعد عصر التنوير، ليس فقط المتاحف الفنية ولكن أيضاً متاحف التاريخ والعلوم الطبيعية، مردّه الرغبة في التعبير عن الشكل العلماني الأول من الحقيقة، وأن تلك المباني الزجاجية المنتشرة اليوم تمثل روح العصر التي تطمح الآن إلى شكل مختلف من الحقيقة، شيء مبهم ولكنه أكثر انسجاماً مع جماليات القرن الحادي والعشرين وحقائقه الافتراضية الزجاجية.