"سيلفي" وهوس الكمال المطلَق

06 نوفمبر 2018
(مقطع من عمل للفنّانة الدنماركية أوليفيا موس)
+ الخط -

في كتابه "سيلفي: كيف أصبح الغربُ مهووساً بالذات؟"، الصادر حديثاً عن "دار بيكادور"، يتطرّق الكاتب البريطاني ويل ستور إلى ظاهرةٍ اجتاحت المجتمعات الحديثة، وإن بدت أكثر وضوحاً في المجتمعات الغربية كما يُشير إلى ذلك عنوان العمل.

تتمثّل هذه الظاهرة في الاهتمام المتزايد بالذات وفق معايير معيّنة أصبحت هي المحدّد الأوحد للنجاح، بحسب المؤلّف الذي يُعيد، في كتابه هذا، تأكيد حقيقةٍ باتت معروفة لدى الجميع، وهي أننا نعيش في عصر الفرد، وهذا الفرد ينبغي أن يكون نحيلاً، ومزدهراً وسعيداً ومنفتحاً، فتلك هي الصورة السائدة اليوم عن الذات المثالية.

يتكرّر التقاؤنا بهذا الشخص في كلّ مكان: في الإعلانات، والصحافة، وجميع وسائل التواصل الاجتماعي. عن ذلك، يقول ستور: "لقد قيل لنا إنه، ولكي تكونَ هذا الشخص، عليك فقط أن تتّبع أحلامك، فإمكاناتك لا حدود لها، وأنت مصدر نجاحك الخاص". غير أن هذا النموذج من الذات المثالية يُمكن أن يكون خطيراً للغاية، فالناس يعانون تحت تعذيب هذا "الخيال المستحيل"؛ حيث يؤدّي الضغط الاجتماعي غير المسبوق إلى زيادة حالات الاكتئاب والانتحار.

لكن، من أين تأتي هذه الصورة المثالية؟ ولماذا هو قويٌّ الهوسُ بها إلى هذه الدرجة؟ وهل ثمّة من طريقة لكسر هذه التعويذة؟ للإجابة عن هذه التساؤلات، يأخذنا الكتاب في رحلة طويلة إلى شواطئ اليونان القديمة، مروراً بالعصور الوسطى وما بعدها وصولاً إلى النيوليبرالية والفردية المفرطة التي تسيطر على الإنسان الحديث، ليروي القصّة الاستثنائية لما نعرفه جميعنا وبشكل وثيق: قصّة النفس المتعَبة الباحثة عن الكمال المطلَق.

يقدّم المؤلّف نماذج عديدة من الافتتان بالذات؛ مثل تلك الشابة التي اعتادت أن تنشغل طوال اليوم بالتقاط صور "سيلفي" ونشرها على صفحتها في منصّة "إنستغرام" مع تعليقات تتمحور حول الذات، في انتظار كلمات التقدير والإعجاب من الأقارب والأصدقاء الذين يتابعونها. ويُرجِع هذه النرجسية المفرطة إلى الدلال الزائد الذي يعامل به بعض الآباء أبناءهم.

ويلفت إلى أن حالة التقاط صور "السيلفي" ليست مريحةً لأصحابها في كل الأوقات، فهي، وعوضاً عن أن تُحقّق لهم ما يرغبون فيه من إشباعٍ نفسي، قد تكون سبباً في تعاستهم، وربّما موتهم أيضاً. يستشهد هنا بإحدى الدراسات التي ذكرت أن ضحايا هذه الظاهرة بلغوا في السنوات الست الماضية 259 شخصاً قضوا بسبب إصرارهم على التقاط صور "سيلفي" على المنحدرات والسكك الحديدية وغيرها من المناطق الخطِرة.

ثلاث ذوات

يفتتح المؤلّف كتابه بالفصل رقم صفر، والذي اختار له عنوان "الذات الميتة". يبدأ هذا الفصل بحكاية عن "ديبي"؛ تلك المرأة التي حاولت الانتحار بسبب معاناتها ممّا يُعرف بـ "احترام الذات المتدنّي"، وهي حالة لازمتها منذ الطفولة حتى أوصلتها إلى "كراهية الذات"، بحسب الرسالة التي تركتها على حاسوبها الشخصي.

كما يورد حكاياتٍ أخرى لأشخاص حاولوا الانتحار وكُتبت لهم النجاة، أو كانوا على علاقة بآخرين انتحروا فعلاً، معتبراً أن ما يجمع بين تلك الحالات هو أن جميع أصحابها كانوا ضحايا لما يُمكن تسميته البحث عن نموذج الكمال؛ فكلّهم كانوا يسعون إلى أن يكونوا ذلك الإنسان الكامل. لكنهم، وبعد أن أخفقوا في تحقيق ما كانوا يتوقون إليه، آثروا الانسحاب من السباق برمّته، أي وضع حدّ لحيواتهم.

ولأن الهوس بالذات سلسلةٌ مترابطة تقود في النهاية إلى شيء واحد وهو انشغال معظم الناس بذواتهم، يُحدّثنا المؤلّف في الفصل التالي، والذي حمل الرقم واحد، عن "الذات القبلية"، قائلاً إن البشر بطبعهم قبليون تسيطر عليهم قِيم المكانة، ويستميتون في الصعود إلى قمّة الهرم الاجتماعي لإشباع الجوع إلى الشهرة والسمعة، ولا تهمُّهم نوعية الوسيلة التي تُوصلهم إلى ذلك المبتغى.

وفي الفصل الثاني، الذي حمل عنوان "الذات الكاملة"، يقرأ المؤلّف دلالات هوس معظم الناس بالشكل الذي يبدون عليه، فالكثيرون مثلاً يُحاولون، وبشتّى الوسائل، التخلُّص من الوزن الزائد، وثمّة من يربط بين مظهر الإنسان والقيم الأخلاقية، حين ينظرون مثلاً إلى ذوي الأوزان الزائدة وكأنهم خالفوا قوانين الأخلاق عندما لم يهتموا برشاقتهم.

ليست هذه النظرة جديدةً على ما يبدو، إذ يجد ستور في ثنايا التاريخ ما يشير إلى أنها ضاربةٌ في القِدم، فقدماء الإغريق، مثلاً، كانوا يعتبرون أن أصحاب المظهر الجميل يتمتّعون، بالضرورة، بأخلاق راقية، والعكس صحيح.

وفي فصلَي "الذات السيئة" و"الذات الجيّدة"، يحاول المؤلّف، من خلال إجراء عددٍ من المقابلات مع متخصّصين في التحليل النفسي، أن يصل إلى إجابات لعدد من الأسئلة عن سعي الكثير من الناس إلى الوصول لما يسمّونه درجة الكمال، عبر العديد من التصرّفات والسلوكيات.

من بين تلك الأسئلة التي يطرحها: لماذا يحرص بعض الناس على اقتناء السيارات واليخوت الفاخرة؟ وهل هم فعلاً بحاجة إلى امتلاكها وامتلاك أشياء أخرى شبيهة؟ ويصل إلى أن الكثيرين قد يسعون إلى امتلاك ما لا يحتاجون إليه، وهم في سعيهم ذاك يتكبّدون الكثير من الإرهاق والمعاناة، ولكنهم يتحمّلون كلّ ذلك، فقط من أجل أن يقولوا للآخرين: "نحن هنا.. نحن أفضل منكم بما لدينا".

ذاتٌ رقمية أيضاً

في فصل بعنوان "الذات المميّزة، يُذكّرنا المؤلّف بحكاية الروسية أليسا روزنباوم، التي ستُصبح أيان راند عندما تُهاجر إلى الولايات المتّحدة. عاشت هذه الفتاة أحداث الثورة البلشفية عام 1917 وهي في الثانية عشرة من عمرها؛ حيث شهدت مصادَرة كل أملاك عائلتها البرجوازية، بحيث لم يترك لها الثوار ما تعيش به، لكن هجرتها ستفتح لها الأبواب، حيث أصبحت من المساهمين في الحركة الثقافية هناك، مستفيدةً من تجربتها القاسية في بلدها الأم. وقد تمثّلت خلاصة تجربتها في دعوتها إلى أن يسعى الناس إلى التميُّز باعتباره مكافأةً للذات.

وفي حديثه عن الذات الرقمية، يأخذنا ستور في رحلة عبر التاريخ ليرصد آثار التكنولوجيا على الحياة النفسية والاجتماعية للأفراد؛ حيث يعود إلى العام 1968، متوقّفاً عند بدايات ظهور الكمبيوتر الشخصي الذي غيّر كثيراً من المفاهيم وطرق العمل، بل غيّر أيضاً، وبشكل جذري، الطريقة التي نعيش بها، وأحدث تحوّلات كبرى على كلّ المستويات؛ حيثُ يسرد العديد من الأحداث التي أسّست للكثير من أركان العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم، لكنه ينظر إليها من زاوية تلبية متطلّبات حياتية تُسهم هي الأخرى في تكريس الفردية وعبادة الذات.

الطموح القاتل

يختتم المؤلّف كتابه بسؤال عن كيفية تأقلُم الإنسان مع الأفكار والمفاهيم التي تُعلي من شأن الفردية وتشدّد وبشكل متطرّف على مبدأ الإنسان الكامل. للإجابة عن هذا السؤال، ينقلنا إلى قصّة أخرى من قصص ضحايا الطموح اللامحدود والبحث الذي لا يعرف الراحة عن الكمال المطلق، وهي قصّة شاب أميركي يُدعى أوستن هاينز، ويُعدّ أحد عباقرة التكنولوجيا، والذي وُجد جثة هامدة في معمله في أيّار/ مايو 2015. بعد التحقيق في سبب انتحاره، تبيَّين أنه عانى كثيراً من حملة إعلامية قلّلت من شأن بعض أفكاره العلمية. ولأنه كان من الذين لا يكلّون من البحث عن الكمال المطلَق، لم يحتمل تلك الانتقادات واعتبر نفسه ذاتاً فاشلة لا تستحق الحياة.

المساهمون