رهائن في صراعات اللغة والهوية

22 سبتمبر 2016
(مدرسة جزائرية خلال إضراب التلاميذ، 2008، فايز نور الدين)
+ الخط -

ظلّت المدرسة الجزائرية أشبه بساحة حرب تُخاض فيها كلّ المعارك الأيديولوجية بين تيارين يقفان على طرفَي نقيض: ليبيرالي/ فرنكوفوني يصف نفسَه بالحداثي ويصفه خصومه بالتغريبي الذي "يسعى إلى فصل المنظومة الثقافية والاجتماعية في الجزائر عن بُعدَيها العربي والإسلامي"، ومحافظٍ/ معرّب يلتقي عنده العروبيون والإسلاميون، وهذا يصمُه خصومُه بالرجعية طوراً، وبالظلامية طوراً آخر.

وطالما شكّلت العربيةُ، التي اعتُبرت لغة وطنية رسمية ووحيدة في دستور 1963 (بعد سنة من الاستقلال)، عنصر تجاذب بين الفريقين. لكن، يُمكن تلمّس جذور ذلك الصراع مع بدايات التعريب (الانتقال من استخدام الفرنسية إلى العربية) في فترة الرئيس هوّاري بومدين (1932 - 1978). فالرجل القادم من خلفية ثقافية عربية وإسلامية، بالنظر إلى أنه تلقّى تعليمه في "جامعة الأزهر" في القاهرة، بدأ منذ 1971 حملةَ تعريب واسعة انطلقت من الإدارة، قبل أن تصل إلى المدرسة التي كان يُفترض أن يُطبّق فيها قانون التعريب ابتداءً من 1977.

غير أن المشروع شهد تعثّراتٍ كثيرةٍ، خصوصاً مع تعيين المؤرّخ مصطفى الأشرف (1917 - 2007) وزيراً للتربية (1977 - 1979)، والذي اتُّهم بالدفاع عن الفرنسية ومحاربة العربية، هو الذي أخذ على دعاة التعريب الشامل عدم توفير المتطلّبات الفكرية والمعرفية بسبب "ضعف بنيتهم الثقافية، وميلهم العاطفي، وقفزهم على الواقع الاجتماعي"، كما يذكر في كتابه "مشكلات التربية والتعليم" (1977).

ولعلّ "المسألة اللغوية" في الجزائر لم تُثَر يوماً، على المستوى الفكري، كما أُثيرت في تلك الفترة؛ خصوصاً من خلال سجالات الأشرف والمفكّر عبد الله شريّط (1921 - 2010) أحد دعاة التعريب البارزين، والذي جمع مقالاته حول الموضوع في كتابه "نظرية حول سياسة التعليم والتعريب" الصادر عام 1984.

غير أن أبرز تجلّيات ذلك الصراع سيشهدها عام 1992، مع ما سُمّي حينها بـ "فضيحة تسريب أسئلة البكالوريا" التي دفعت بوزير التربية آنذاك، علي بن محمّد، إلى تقديم استقالته. لم يكُن الأمر حادثاً عرضياً أو عابراً، بل كان مؤشّراً على وصول الصراع إلى ذروته؛ إذ رأى التيار المحافظ أن ما حدث كان "مؤامرةً قادها التيار الفرنكوفوني" ضدّ بن محمّد، بسبب إقراره خطّة لإدخال اللغة الإنكليزية جنباً إلى جنب مع الفرنسية في المدارس الابتدائية.

المفارقة أن ذلك سيتكرّر بعد قرابة ربع قرن، لكن مع تبادلٍ للأدوار بين المعسكَرين؛ فقد عرفت امتحانات البكالوريا، الصيف الماضي، تسريباتٍ غير مسبوقةٍ مسّت سبع مواد أساسية. اعتُبر أن ما حدث هو ما لاح من جبل الصراع الأيديولوجي وتصفية الحسابات ضدّ وزيرة التربية، نورية بن غبريط، المحسوبة على التيار الفرنكوفوني، والتي يتّهمها خصومُها، منذ تعيينها عام 2014، بالعمل على "فرنسة المدرسة الجزائرية وضرب الثوابت الوطنية".

لم تستقل الوزيرة ولم تُقَل، بل إن تعديلاً حكومياً جزئياً أُجري بعد التسريبات بفترة وجيزة قُرئ على أنه تضامن رسمي معها، في حين وجدت المعارضة "الإسلامية" التي دعت إلى إقالتها، نفسها في دائرة الاتهام. أمّا التلاميذ (والمنظومة برمّتها)، فهم، ككلّ مرّة، ضحايا الحرب ورهائنها الذين لا يسأل عنهم أحد.

يُحسَب لصاحبة "المدرسة الجزائرية: تحوّلات وآثار اجتماعية" (1998)، أنها قادمة من خلفية أكاديمية، فهي باحثة في علم الاجتماع وأصدرت عدّة كتبٍ في هذا المجال، كما سبق أن تولّت إدارة "المركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية" في وهران.

لكن، من جهة أُخرى، يأخذ عليها منتقدوها الإعداد لما يُسمّى "الجيل الثاني" من الإصلاحات، بعد أن كانت أحد الفاعلين الأساسيين في "لجنة بن زاغو" التي عُهد إليها بإصلاح المناهج الدراسية عام 2003، والتي تعترف، هي نفسها، بفشلها بعد 11 عاماً على تطبيقها.

كما يُؤخذ عليها الإعداد للإصلاحات "بالشراكة مع خبراء فرنسيين في سرّية تامّة، وبعيداً عن الشركاء الاجتماعيين الجزائريين". (وهو ما ظلّت تنفيه، مردّدةً أن "اللجنة الوطنية للبرامج والمناهج" هي من يتولّى المشروع وأن كلّ أعضائها جزائريون".

غير أن التأكيد سيأتي على لسان وزيرة التربية الفرنسية، نجاة فالو بلقاسم، التي تحدّثت، خلال زيارةٍ لها إلى الجزائر في نيسان/ أبريل الماضي، عن "تقدّم التعاون مع الجزائر في مواد بيداغوجية جرى إنشاؤها معاً بين وزارتَي البلدين".

لم تنته متاعب الوزيرة مع التسريبات؛ إذ تجدّدت الحملةُ ضدّها بدايةَ الشهر الجاري، بعد إعلانها فتح تحقيق مع معلّمةٍ بثّت فيديو مباشراً عبر فيسبوك داخل الصفّ في أوّل يوم من الدخول المدرسي. برّرت بن غبريط خطوتها بأن القانون يمنع تصوير الأطفال داخل أقسام التدريس، غير أن منتقديها اعتبروا أنها ما كانت لتتّخذ القرار لولا أن المعلّمة قالت، في شريطها، إن "العربية لغة أهل الجنّة".

ولم تكد "قضيّة المعلّمة صباح" تتوارى بعد أن شغلت الرأي العام لأيّام وأعادت إذكاء صراعات اللغة والهوية، حتى أُثيرت منتصف الشهر نفسه مسألة وجود خطأ في كتاب للجغرافيا يتمثّل في وضع اسم "إسرائيل" على خريطة فلسطين المحتلّة. سُحب الكتابُ بسرعةٍ قياسية واستُبدلت الخريطة، لكن ذلك فتح باباً جديداً؛ فقد تحوّل التفتيش عن الأخطاء في الكتب الجديدة إلى ما يشبه هوايةً يمارسها الجميعُ على مواقع التواصل الاجتماعي.


المساهمون