صدر قديماً: "تعطير النواحي" بين الشيخ وحفيده

20 يناير 2018
("زاوية سيدي إبراهيم الرياحي" في تونس، تصوير: زاهر كمّون)
+ الخط -

في سنة 1903، صدر كتاب "تعطير النواحي بترجمة العلامة إبراهيم الرياحي" (الناشر: المكتبة العتيقة) لـ عمر الرياحي، وهو حَفيد الشخصية المدروسة. كتابٌ قد يشي عنوانُه بطابع مناقبي، وإيغال محتواه في التمجيد، فضلاً عن اندراجه ضمن أدبيات التقريظ.

ولكن القراءة المتأنية لجزأيْه تكشف مدوّنة ثرية بالخُطب والرسائل والأشعار، بالإضافة إلى وقائع تاريخية تهمّ الأوضاع الاجتماعية والثقافية لـالبلاد التونسية، طيلة النصف الأول من القرن التاسع عشر، موعد التحوّلات الأعمق منذ العصور الوسيطة.

وقد اقتصرت شهرة إبراهيم الرياحي (1767-1850) على شِعره الصوفي وخُطبه المؤثرة، وعلى بعض جهوده الدبلوماسية ووساطاته التي سعى فيها بين بايات تونس وجيرانهم في المغرب، أو سفره سنة 1838 إلى السلطان العثماني في إسطنبول، محمود خان (1785-1839)، موفداً من قبل المشير أحمد باشا الأول (1806-1855)، لالتماس إعفاء البلاد، "الفقيرة حساً ومعنى"، من الضريبة السنوية.

ولكن قلّما التُفت إلى آرائه اللغوية والفقهية والتوجيهات التأويلية التي صاغها حول مسائل في النحو والبلاغة. فقد ضمّت هذه السيرة الفكرية جلَّ ما حبَّره من نظراتٍ لغوية: أبرزها قَصيدةٌ مطوّلة نظَم فيها متنَ ابن أجروم (1273 - 1323) وفيها لخّص قواعد النحو ومفاهيمه.

وفي هذه السيرة، نكتشف أيضاً نصوصاً نادرةً حول "فقه النوازل"، أو ما اصطلح عليه، في أيامنا، بفقه الواقع، إذ كان إبراهيم الرياحي يشغل منصب المفتي المالكي، بالإضافة إلى الاضطلاع بوظيفة القضاء، وهو ما يؤكد تمكّنه من العلوم الدينية واللغوية وتمرّسه بمسائل الإفتاء والقضاء. وبفضل معاشرة التراث الفقهي، تمكّن من حلّ إشكالات النصوص الدلالية وغموض مبانيها، بالاعتماد على بديهةٍ ثاقبة.

ونظراً إلى ندرة هذه التحليلات وثراء الخطب والرسائل والأحداث المبثوثة طيَّ "تعطير النواحي"، ندركُ مدى الظلم الذي لحقه، فقد نُظر إليه فقط ككتاب مناقب وسيرة تمجيدية، في حين أنه يكتسي أهمية بالغة على أكثر من صعيد.

بداية بالبعد التاريخي للعمل، فهو يصوّر حالة "الإيالة التونسية" في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويذكر العديد من التفاصيل المهمة عن الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية في جهاتها، بالإضافة إلى توثيق العديد من الخطب الدينية والسياسية، التي كانت تشكل أنماط الوعي آنذاك.

وتحسن العودة إلى هذه السيرة أيضاً لإجراء دراسة موسّعة حول أجناس الخطاب ووظائفه السوسيولوجية والكلامية. وينبغي ألا ننسى، في هذا الإطار، أنَّ الرجل كان من أبرز المعارضين لسياسة الباي التبذيرية، ومن أشد الداعين إلى الالتفاف حول الجامعة الإسلامية التي تجسّدها الخلافة العثمانية آنذاك، منتقداً ميل الحكام إلى الانفصال وتأثرهم بالغرب.

ويجدر الالتفات كذلك إلى الجانب اللغوي والفقهي من سيرة إبراهيم الرياحي، فقد ضم هذا الكتاب أشعاره الكثيرة، والتي تولى كل من محمد اليعلاوي وحمادي الساحلي جمعها وتحقيقها في كتابٍ خاصٍ، نشر سنة 1990.

كما احتوى مجموعاً قيّماً من الآراء في فقه اللغة، وحل معضلات النحو ومسائل الدلالة التي لم تحظ إلى حد الآن بأيّ تحقيق علمي. ولا تعكس هذه الوقفات تمكّنَ الرجل من علوم اللغة فقط، بل اقتداره على توظيفها في التعامل مع القضايا المستجدة التي شغلت الواقع التونسي قبيل الاستعمار، ولعلها مهّدت له.

وقد ساعدت الرجلَ رحلاتُه العديدة إلى سلا وفاس (المغرب) والأستانة والقاهرة والمدينة المنورة، للقاء العلماء وإلقاء الدروس في محافلها، وكل تلك الرحلات مُدوّن هنا مع ما ألقاه خلالها من محاضرات ومساجلات، وهي تفتح الكتاب على مشهد عربي أوسع من الإطار التونسي.

وهكذا فكتاب "تعطير النواحي" أشبه بسيرة فكرية وتأريخ يتبع المنهج الحَوْلي، يستقصي فيها مؤلفه حياة الشيخ سنةً بعد سنة، واضعاً خلالها ما أنتجه من الخطب والقصائد والتحريرات والرسائل.

ولهذه الأخيرة، من ناحية الوصف الدياكروني (التاريخي) لتطوّر العربية أهمية واضحة: فالكتاب وما انطوى عليه من النصوص يعكس مرحلةً حاسمة في انتقال العربية من طور الجمود والتكلّف إلى بدايةٍ، وإن محتشمة، في التعبير عن تحوّلات اجتماعية طالت الطبقات الفقيرة المُهمشة التي نالها إجحاف السلطة. وقد انتقده الشيخ، بالاستناد إلى مبادئ الفقه، ولحسن الحظ، حفظ كتاب "التعطير" بعض وقائع ذلك النقد، كاشفاً جرأة الرجل في مواجهة السلطان.

ولا مبالغة في عدِّ أثر إبراهيم الرياحي إرهاصاً أوّلاً من إرهاصات النهضة الروحية والفكرية في تونس، إذ كان أستاذاً لأشهر روادها: أحمد بن أبي الضياف وخير الدين التونسي، كما كان مناصراً للإجراءات التحديثية التي أقرها أحمد باي، ومنها دعوته لتحرير العبيد وإلغاء الرق نهائياً من تونس. سيرةٌ لا تنقضي مفاجآتها.

المساهمون