شتاء عام 1940… كنتُ أعمل في دفاتر السجلّات في السجن.
ذات صباح، بينما كان الكاتب يقلّب الأوراق الجديدة القادمة، قال: "هنيئًا لك".
نظرتُ إليه في حيرة:
- سيأتي أستاذك!
اندهشت تمامًا، لم يكن لي أستاذ أو ما شابه…
- هل تتحايل عليّ؟
- لا، ليس لي أيّ أساتذة!
- إنه ناظم حكمت يا حبيبي.. ألا يُعَدّ هذا أستاذك؟
لم أصدق، فمدّ إليَّ الورقة التي في يده، أخذتها وتفحّصتُها سريعًا. حقًّا سيأتي، لكي يتمكن من الاستفادة من الحمّامات هنا، إنه يعاني من عرق النّسا.
كان نهارًا رماديًّا، والثلج فوق أوراق الزنبق الخضراء التي في حديقة السجن.
بقائي بعيدًا عن بيتي، وشقاء الأيام الرمادية التي أثارت ثائرتي، وانقطاع الأمل من انتهاء العقوبة التي بقي على انقضائها سنوات، وفجأةً كأنَّ شمسًا لامعة نجت من السحاب، ومَحَتْ كل ذلك تمامًا. في حين أنه لم يكن بيننا حتى كلمة مرحبًا، ولم يكن لديَّ أيُّ احتمال لكي نصبح أصدقاء.
كنت كأيِّ أحد مفتونٍ به من بعيد، وكأي أحد، كنت ممتعضًا منه، دون معرفة سبب ذلك، ولكن ربما مثل أي أحد، دون أن أعرف السبب أو ربما أعلم قليلًا أنني أحببت فنّه المدهش والمُعظّم الذي يشبعني.
خرجت بهدوء من غرفة السِّجلات، كنت سأخبر صاحبيّ اللذين يكتبان الشِّعر ويظنّان نفسَيهما شاعرَين، بالخبر الذي علمتُه من الكاتب.
أحدهما اسمه نجاتي، كان في نفس عمري، ولكن حُكِم عليه بسبع سنوات ونصف، قضى خمسًا منها. لم يرَ في سنواته المتدهورة أيّ نقود لتساعده. تعرَّف على ناظم حكمت في سجن إسطنبول، وأصبحا صديقين مُقَرّبَيْن… أول شيء عرفته عن ناظم حكمت كان من نجاتي، الذي تحدث معه وجهًا لوجه. نجاتي كان يعمل بأشغال التنظيف في إدارة السجن. عثرت عليه جانب السلك الأمني لحجرة الزيارة في الطابق الأسفل، وقلت له:
- هل علمتَ بالخبر؟ سيأتي ناظم حكمت.
لم يصدّق، أقسمت له، فصفّق بيديه مثل الطفل، وصاح "فليَحيَ"، ثم حدّثني عن قباقيب ناظم حكمت في سجن إسطنبول، وجاكيته الصوفي الأخضر الطويل.
قال: "يا لطيف، لنُنَبِّه عزّت ألّا يقرأ شِعرًا، ناظم لا يحب الإزعاج أبدًا… ينبغي ألّا يسأل عزت عن هذه وتلك… وإذا أردت فلا تخبره عن مجيئه… لأن ناظم من الممكن أن يأخذ فرشته ويذهب إلى غرفة أخرى".
الأشياء التي حدّثني عنها نجاتي، كانت خصوصيات تليق بالرجال الكبار والمشهورين، ولكن ليَحدث ما يحدث، سأتعرّف عليه حتى لو لم نصبح صديقَين، على الأقل سأراه وجهًا لوجه وأسمع صوته.. ياااه!
كنت أفكر ألّا أدخل إلى حجرته وألّا أسأل عن أي شيء أو أقرأ شعرًا أو ما شابه أمامه. جئت إلى حجرتنا، كان عزت يقرأ رواية "كيرا كيرالينا" التي أخذها منِّي، وبقية المساجين كلّ واحد منشغل بعمله؛ الذي يضع الفحم في المجمرة، والذي يضع حَلّة صغيرة فوق المجمرة المشتعلة وينتظر غليانها، وآخر ينقّي الأرز، والذين لا يعملون شيئًا، تجمّعوا واستندوا إلى الأسرّة، يفكّرون، وشخص آخر كان يقرأ الجريدة.
بداخلي إعصار من البهجة، أحبسه بصعوبة. جلستُ بجوار عزت، رفع عينيه عن الكتاب ونظر إليَّ، وكالعادة، كانت إحدى نظراته المألوفة من ثقل الضجر، فلم يتبقَّ أي شيء جديد ليُحكى في السجن، لقد حفظنا كل شيء؛ الحجر والتراب والزهرة.
كانت الجبال تتراءى لنا من النوافذ التي خلف عزت، تحتها بحيرة بلون الرصاص، والتلال مغطاة بالثلج. لم يزعجني منظر الجبال اليوم مثل العادة، بالعكس، بداخلي أضواء ذهبية وصاعقة برقيّة من البهجة.
"إنك مبتهج اليوم"، قال عزت.
- لا أعرف، هل أبدو كذلك؟
- تبدو مثل أيامك الأولى التي جئت فيها إلى هنا… لماذا كان هذا العُبُوس؟!
كان عزت محقًّا، تضاعفت أزماتي الداخلية في الأيام الأخيرة. ولم يكن ذلك بلا سبب.. ادّعى صديقي أنه كان مضطرًّا إلى ترك الجامعة أثناء دراسته في شعبة الفيزياء بجامعة- لا أدري ماذا- في ألمانيا. وقد صرنا صديقَين قبل ذلك بثلاثة أشهر. لندع الدراسة في الجامعة جانبًا، إنه لا يعرف الفيزياء قدر معرفتي أنا وعزت.
قبل مرور وقت طويل، كان قد انكشف أمره، وصار كل من في الغرفة يتهكّمون عليه بعد ذلك ويقولون "المعلِّم المزيَّف". كان منافقًا لدرجة أنه تحمّل كل ذلك وكان يبتسم.
أشفقت عليه... كانت مدة عقوبته قصيرة، أحيانًا كان يخرج تحت رقابة حارس السجن، ليتنزّه قليلًا ثم يعود ويحكي لنا عن أخواله نوّاب البرلمان وأعمامه قادة الجيش الكبار، وأنه يأخذ مصروف جيبه منهم. أدركنا بعد ذلك أن كل هذا من عالمه الخيالي. كان شابًّا فقيرًا وحالته تثير الشفقة، لدرجة أنني قبل خروجه بأيام كنت أعطيه ملابسي الداخلية وثيابي، حتى إنني خلعت حذائي وأعطيته إيّاه.
وعلى الرغم من ارتدائه لأشيائي أثناء خروجه، فقد كان يتحدّث بحقي بكثير من الوشايات الكاذبة… تم استجوابي وأُخذت إفادتي، ووُبِّختُ بلا سبب وبلا حق. وكان هو مثل باقي المساجين يشفق عليَّ، ويشتم من وشى بي، حتى إنه بعد انتهاء مدة عقوبته، قال لي وهو يعانقني باكيًا على باب السجن: "من أين لي أن أجد صديقًا مثلك؟".
بعد وقت قصير، يعني بعد ثلاثة أيام، علمت أن من وشى بي، والذي تحدث عني بالعكس تمامًا، وجاء بالبلاء إلى رأسي وشغلني بأشياء غير ضرورية، هو "صاحب الخير" الذي ارتدى ملابسي الداخلية وثيابي وحذائي وعانقني باكيًا أثناء خروجه وقال لي: "من أين لي أن أجد صديقًا مثلك؟" أليس هو نفسه؟!
بعد هذه الأحداث قررت ألّا أرتبط بأحد؛ لأنني صرت عدوًّا للجميع بسبب أن شخصًا ما استطاع أن يكون سافلًا إلى هذه الدرجة. لم أكن على حق، بلا شك، في هذا الأمر، ولكن ماذا أفعل؟ لم أكن في وضع أستطيع أن أفكّر فيه بشكل آخر ولم أكن أعلم معنى التعرّف على الناس.
بعد ذلك كانت هناك أسباب أخرى…
ففي السجن يُطعن كلّ يوم واحد على الأقل بالسكين: نزير السمّاك، شوكت الطين، حسن أبو ذراع العنتابلي، إسماعيل فريكويلو، محمد المجنون القونيالي، هؤلاء وعصبتهم، بسبب القمار وتجارة الحشيش، لم يكن يمر يوم واحد دون أن يطعنوا أحدًا… نعم، كانوا يجعلونهم يطعنون كل يوم أحدًا ما. هؤلاء كان لديهم نقود، وكان هناك أناس جاهزون لأن يطعنوا أي أحد من أجل النقود…
ورغم تنبيه نجاتي، قلتُ لعزت أريد أن أقول لك شيئًا، ولكن كأنك لم تسمع منّي هذا.
كان ينظر إليَّ بفضول.
- ناظم سيأتي.
كنت أظن أنه سيطير من الفرحة ويعانقني، قال لي بلا مبالاة:
- أي ناظم؟!
- ناظم حكمت يا عزيزي!
- متى؟
- لا أدري متى، ولكن الكاتب عرض عليّ ورقة بهذا الخصوص، وأنت كُن كمن سمع من الكاتب!
هزّ كتفيه وقال:
- فلتفرح أنت! ما خصّني أنا!
اندهشت من ذلك. معنى هذا أن مجيء ناظم حكمت من الممكن ألّا يُبهج شخصًا ما!
تركت عزت مع رواية "كيرا كيرالينا"، وانطلقت إلى غرفة أمين بك الصريّارلي في الطابق الأعلى. كان أمين بك نشّالًا، وكان يحكي لنا أحيانًا عن لقائه بناظم حكمت في سجن إسطنبول، لا أدري هل كانا صديقَي شطرنج أم دومينو.. أمين بك عيناه لوزيّتان، أسمر وطويل القامة، يُنزل طاقيته الكحلية حتى تغطي حاجبه الأيمن. كان أمام باب الغرفة، يصفّي ماء الفاصوليا الجافة التي قام بغليها. دنوت منه وقلتُ:
- سأخبرك بشيء، ولكن…
- هاتِ لنرى...
- ولكن كأنك لم تسمع مني!
- حسنًا.
- سيأتي ناظم حكمت!
- حقيقة؟!
- والله ها...
وقف على قدميه وأرجع طاقيته إلى الخلف:
- هل صحيح ما تقوله؟
- بشرفي… قرأت قبل قليل ورقة النيابة. إنه يعاني من عرق النّسا...
انتفض أمين بك من الحماس للحظة، وقال:
- ياااه أستاذ ناظم!
وبدأ بسرد ذكرياته معه في سجن إسطنبول. كل هذه الذكريات سمعتها من وقت لآخر وحفظتُها. كنت أريد أن يقطع حديثه لأذهب وأعطي البشرى لغيره.
لم يمر الكثير، ساعة ونصف أو ساعتان تقريبًا، وكان الخبر قد انتشر في كل السجن:
وفقًا لورقة النيابة، سيأتي ناظم حكمت..
قال نجاتي:
- يا ولد، أنت لا يُبَلُّ الفول في فمك!
وبدأنا الحديث:
- سنقرأ له شِعْرَنا.
- لا يا حبيبي، وهل شِعرنا هذا شِعر؟
- شِعْرُك جيد أنت أيضًا.
- وشِعرك ليس سيّئًا.
- أنا لم أذهب إلى المدرسة أبدًا.
- أنا أيضًا لم أُنْهِ المدرسة الإعدادية.
- أنت قرأت كثيرًا أيضًا، وتعرف الخط القديم***... آه أنا؟
- هذا يعني أنه يحمل فرشته على ظهره، وسيأتي..
- لا يتحمل الإزعاج!
- ...
- ...
- هل سمعته وهو يقرأ شِعرًا من قبل؟
- نعم سمعت. وهو يقرأ الشِّعر يتموّج وجه الإنسان! أتعرف أيضًا ماذا من الممكن أن يحدث؟ إذا وُضِع طفل وهو يبكي في حضنه، يسكت الطفل.
- وأنا أيضًا سمعت أنه كان يغوص في مقهى عادي للبائعين، وبالطبع في جيبه وقّة نقود… يدنو من أكثر الأشخاص فقرًا، ويقول: "هذه أموالي، أخرج أنت أيضًا أموالك لنرى!".
يرتبك الرجل ويُخرج أمواله… ثم يقول: "لماذا هي قليلة هكذا؟" ينحني رأس الرجل ويصمت. فيقول ناظم: "أعطني إياها، لنخلط أموالنا معًا ونتقاسمها مناصفة!".
- ...
* فصل من كتابه "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت"
** ترجمة عن التركية أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير
** الخط القديم: الحروف العثمانية/ المترجمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على مقربة من المعلّم
في سجن بورصة بإسطنبول حيث كان يقضي عقوبةً بتهمة التحريض ضدّ نظام أتاتورك، التقى أورهان كمال (1914 - 1970) بمن يعتبره معلّمه الأوّل؛ الشاعر التركي ناظم حكمت (1902 - 1963)، الذي تعرّض للسجن مرّات عدّة ولفترات متفاوتة.
وثّق كمال تجربته تلك في كتابٍ رسّخ مكانته الأدبية بعنوان "ثلاث سنوات ونصف مع نظام حكمت".
عربياً، كان الشاعر والرسّام اللبناني علي فائق البرجاوي أحد الذين تقاسموا تجربة السجن مع حكمت ووثّقها في مذكّراته "مع ناظم حكمت في سجنه".