تبدو جملة الشاعر الأردني أمجد ناصر أو "يحيى النعيمات" (1955 - 2019)، الذي رحل أوّل أمس في مدينة المفرق الأردنية: "أنا شاعر أردني فلسطيني، أو العكس" شديدةَ الدلالة للتعريف بسيرة الرجل التي لم تتوقّف عن كونها سيرة أدبية إنسانية زاخرة بالتجريب والتحديث الشعري والسردي والمزج بينهما، بل تظهر حالة "الفلسطنة" الطوعية ذات الصبغة شديدة التلوين ماثلةً في أكثر أعماله الأدبية حضوراً.
إذ أنّ الطفل "يحيى" ابن بلدة الطرّة الأردنية، وبعد أكثر من عشرين عاماً، سيجد نفسه صحافياً وشاعراً باسم "أمجد" من طينة المقاتلين في اجتياح بيروت في إذاعة الثورة الفلسطينية وبرامجها الثقافية تحت الحصار الذي استمرّ زهاء تسعين يوماً، تذهب به التجربة من هنا ويذهب بها، إلى شتات الثورة من بيروت إلى قبرص ونيقوسيا ولندن، وهناك ليشارك في تأسيس تجارب صحافية فلسطينية أو ذات تأسيس فلسطيني، من صحيفة "القدس العربي" إلى صحيفة وموقع "العربي الجديد" التي كانت آخر مسؤولياته فيها رئاسة تحرير موقع "ضفة ثالثة" المنبثق عن الصحيفة.
يُخزّن الشاعر ذاكرة التسعين يوماً، ذاكرة الاجتياح وحافة الموت، في بيروت في قلبه طويلاً، طويلاً جدّاً، لأكثر من ثلاثين عاماً، ليُفرج عنها في العام 2013 على شكل ذاكرة حملت اسم "بيروت صغيرة بحجم راحة اليد"، يقول فيها: "لا أتحدّث عن تاريخ، لا أتحدّث عن عبرة، ولا عن رواية كاملة، أتحدّث عن تدوينات شخصية، عن انفعالات وتفاصيل وشظايا حكايات يومية لا يُعوّل عليها كثيراً، ولا تطمح بالتأكيد أن تكون كذلك". وإن لم تكن كذلك، فقد كانت بالتأكيد "الإيقاع الذاتي المباشر الذي لم يفكّر في الجانب الأدبي، أو الزخرف البلاغي عندما كان كلُّ شيء يتراقص على الخيط الدقيق بين الحياة والموت".
لم تكن لغة صاحب "وصول الغرباء" (1990) إلّا خروجاً متواصلاً عمّا هو متعارَف عليه في الكتابة، ولعلّها رغبة الرجل في اللعب خارج صندوق الأشياء وتمرّده عليها، مرّةً يمنح القارئ جرعة هائلة من شعرية غرائبية أساسها النثر، ومرّة يمنحه نثراً راقصاً أساسه الشعر، قال فيه الناقد صبحي حديدي ذات مرّة: "إنّ صنيع أمجد هو لغة شعرية وسيطها التعبيري هو النثر". هكذا جاء عمله الشعري "حياة كسرد متقطّع" (2004) موغلاً في مزاوجة لم يعتد القارئ عليها بين الأجناس الأدبية، من نثر وشعر وما بينهما. ولعلّ مفردة التجريب في الشعر، وإن انطبقت في سياق تجربة شعرية ناضجة، ستجد في مجمل أعماله نموذجاً مثالياً للبحث والتشريح والمقاربة.
كانت حياة صاحب "خبط الأجنحة" (1996) محض خبط أجنحة من مكان إلى مكان، طار عبرها وطارت عبره في فضاءات شديدة الكثافة أفضت إلى كتابة مجموعة من أعمال كُتب الرحلات مثل "فرصة ثانية" (2008)، و"رحلات في بلاد ماركيز" (2012) التي زخرت ببراعة وصف وإحاطة لافتة بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة في اليوميات والمعيش الطارئ والساكن، اشتغل فيها وانشغل عبرها في قراءة معمّقة لتاريخ البلدان ومقاربات المعيشة واستدخالات القضايا الكبرى فيها. إنها، بتعبيره، "أكثر من مجرّد وعاء جغرافي أو بيئي يتحرّك داخله الإنسان أو يسعى في سفره وترحاله إليه... إنها مثل كائنات حية يطرأ عليها التقادم والتآكل والحت والتغير والهرم مثلنا بالضبط".
لا تتوقّف الرواية عند مؤلّف "أثر العابر" (1995) على تخوم وظيفتها الحكائية التي تحكي وتسرد ما يحدث وما حدث وما سيحدث، إنها، أي الرواية، مدّت حدودها واستحالت أكبر من كونها وعاءً حكائياً فقط وذهبت إلى فعل الكتابة أكثر من ميلها السابق الى الحكاية، لا يهرب فيها من الشعر، وهو الشاعر في القلب والعقل والوجدان، بل يذهب إلى الرواية بكلّ ما يحمله من شعر في القلب. إنه ينقل الشعر إلى الرواية، ويذهب بالرواية إلى مربّعات الشعر، نافياً امتلاك الكاتب للغتين، لغة للشعر ولغة للنثر، بل محض حالة من حالات المحاولة لضغط العالم في "حيز لغوي وتعبيري محدود".
لم يتمكّن صائد الغفلات اللعين (السرطان)، كما أشار إليه صاحب "حيث لا تسقط الأمطار" (2010) ذات مرّة، أن يفتك به تماماً، ولعلّ الغفلة نقيضة الصحوة بعد التوقّف، والانطلاق بعد النكوص، بل هادن الرجل المرض بالمهلة، التي كتب فيها حديث الحواف والفجيعة. ولعل الفجيعة، وإن كان فيها ما فيها من فجيعة شخصية على مشوار لم يكتمل تمام اكتماله، وهذا حق مشروع بالفطرة والغريزة وحب الحياة، بل لأن صائد الغفلات إياه، باغته بالتحولات الإلزامية التي قضت مضجع العاديات اللذيذة، وهناءة اليومي التي يقتات عليها صاحبها.
ولعلّ أمجد، الشاعر الذي أحنى رقبة الكلمة أمام الشعور، والجملة أمام الموقف، والهزيمة اللائقة أمام الهزيمة الحتمية، لم يفته أمر تطويع لحظة الحافة الهائلة أمام اللحظة الشعرية، وكأنها غريزة أن تحكي، حين يكون الحكي والقول والشعر سلاحك الوحيد في رحلة الحافة، إلى أن تصل، وقد وصلت بسلام الآمنين.