يُوجد خيط غير مرئي بين الأدوار التي يؤدّيها ممثّل وحياته الشخصية. كلّما تراكمت الأدوار، وظهر بالتالي منطق اختيارها، وكلما وصل الضوء أكثر إلى حياته الشخصية بدت ملامح التطابق أكثر فأكثر. نوع من "الهوية السردية"، بحسب عبارة بول ريكور، يتشكّل عبر المشاهد التي يؤدّيها الممثّل، ولا شكّ بأنه يضخّ فيها الكثير من تجاربه الشعورية التي مرّ بها في حياته بعيداً عن الكاميرا.
يتفاوت الشعور بالتطابق بين ممثّل وآخر، ولكنه يبدو في أعلى مستوياته حين نضع اللمحات التي نعرفها من حياة سعاد حسني بجانب مجموعة من أدوارها، من "الزوجة الثانية" إلى الراعي والنساء"، مروراً بـ"الكرنك" و"المتوحّشة" و"خلي بالك من زوزو" و"أهل القمة" و"الجوع".
يقابل اليوم ذكرى ميلاد سعاد حسني (1943 - 2001)، لكن سيرتها باتت تُقرأ من خواتيمها منذ رحيلها الغامض في لندن، وتضارب القراءات حوله، من فرضية الانتحار كما ذهبت إلى ذلك التحقيقات البريطانية واجتهدت الرواية الرسمية على ترسيخها، إلى احتمال الاغتيال، وهي القناعة الأكثر انتشاراً، والتي ترجّحها أسرتها وزملاؤها والجمهور.
بدا المحققون البريطانيون، وهم يغلقون ملف قضيّتها، وقد اقتصروا على النظر داخل الكادر الصغير لحادثة سقوط امرأة من إحدى شرفات مبنى "ستيوارت تاور"، وساعد ملفّها الطبّي، الذي يشير لتعدّد مشاكلها الصحية في السنوات الأخيرة وأعراض الاكتئاب، على ترجيح الانتحار كسبب لوفاتها، في تبسيط عجيب لقضية معقّدة.
لكن روائح أسرار كثيرة قد انتشرت بموت سعاد حسني، ظلّت في معظمها مجرّد حديث هامس، حتى أعادت جنجاه، أخت الفنانة الراحلة، فتح القضية بعد "ثورة 25 يناير". وبعد أمل قصير، اصطدم المتابعون، في 2013، بإغلاق الملف لعدم توفّر الأدلة الكافية ضد المتهم الرئيسي، صفوت الشريف، وزير الإعلام المصري عند رحيل سعاد حسني، ورئيس مجلس الشورى إلى نهاية حكم حسني مبارك. فإذا اعتبرنا أن البريطانيين كانوا غافلين عن موقع سعاد حسني في الحياة الفنية والاجتماعية والسياسية، فهل يمكن أن نقول نفس الشيء مع المصريين؟ إنها حادثة أخرى من التفاهة البيروقراطية قد لا يطابقها سوى مشهد من مشاهد "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، وقد جسّدت بعض مشاهده الممثلة المصرية في فيلم "عصفور الشرق".
بمجرد أن نحفر أبعد، تعترضنا مذكّرات سعاد حسني، وكلما رجّح أحدهم فرضية الاغتيال إلا وأشار إلى نيّة الممثلة المصرية نشر مذكرّاتها التي كتبت بعضها وسجّلت البعض الآخر بصوتها، وتتضمّن كيف جرى التلاعب بها من أجل استخدامها في عمليات مخابراتية في الستينيات، وكان أحد المشرفين على ذلك صفوت الشريف الذي استمر في ابتزازها.
يمكن هنا أن نعود إلى فيلم "الكرنك"، ونشاهد سعاد حسني وهي تؤدّي دور زينب، وتؤخذ بلا جريرة إلى المعتقل. تعذّب وتغتصب بلا سبب سوى أن المسؤولين يريدون أن يثبتوا لرؤسائهم أنهم يأدّون واجبهم. وحين ينتهي الفصل الأوّل من الجحيم، سرعان ما يُطلب منها أن تتجسّس على زملائها وتنقل للبوليس أخبارهم وإلا فإن الفضيحة في انتظارها. كان الاغتيال النفسي هو نهاية زينب في "الكرنك"، والاغتيال الجسدي نهاية سعاد حسني، وقبل ذلك "تدمير إنسانيتها" كما ورد على لسانها في تسريبات مذكراتها.
الاغتيال المادي بدا وقد تجسّد في مشهد نهاية فيلم "شفيقة ومتولي". بوضوح قال "أفندينا" (أداء جميل راتب): "البنت دي تعرف أكثر من اللازم.. البنت دي لازم تنخرس". في نهاية الفيلم، يأتي صوت صلاح جاهين، يرثي شفيقة أو سعاد، أو كلاهما، وهي بين يدي متولي (أحمد زكي): "متولي شال جثة المقتولة بين ذراعيه.. ضربوها قدام عينيه بالنار ما يعرف ليه"..
بين مسار زينب ومصير شفيقة، تبدو شخصيات أخرى جسّدتها سعاد حسني مثل نقاط على طول الطريق كأنها تفسّر ما سيحدث، من شخصية بهية البرّاوية في "المتوحشة" حين يجعل الفقر من الحب مستحيلاً، أو يلعب الماضي نفس الدور في "الراعي والنساء"، وخصوصاً في دور سهام في "أهل القمة"، والذي ترسم نهايته خلاصة حال المواطن العربي حين تختار سهام دون رغبة خالها (عزّت العلايلي) الزواج من مهرّب (نور الشريف) فيقول لها: "تبيعي نفسك وتهيني كرامتك علشان دخل محترم"، وترد: "وهِيّ كرامتي ما تهانتش، طول مانا كنت في بيتك يا خالي؟".
مقابل هذه الشخصيات المغلوبة، أدّت سعاد حسني شخصيات أخرى بنفس الملامح والعقبات، ولكنها اتخذت مسارات وخيارات مختلفة، ثورية في الغالب، مثل زبيدة في "الجوع"، ومنّاعة في "الدرجة الثالثة"، وضمن هذه القائمة يمكن أن نضع شخصية فاطمة في "الزوجة الثانية". وجد هذه السينما الملتزمة بقضايا اجتماعية وشعبية، في سعاد حسني ورقة قوية، كانت سينما تحتاج إضافة إلى رؤى مخرجيها مثل علي بدرخان وسمير سيف وحسن الإمام إلى وجه جماهيري وقلب مؤمن بأطروحاتها. ربما دفعت سعاد ثمن هذه الأدوار أيضاً.
لكن الصدام، لم يكن مع الأجهزة وحدها، إذ توجد أدوار أخرى كان ينبغي أن تدفع ثمنها ولو من خلال سلاح طرف آخر. ترسم أدوار سعاد حسني تحوّلات المرأة العربية من الخمسينات إلى بداية التسعينيات، من دورها الصغير في "الطريق" وأحلامها الوردية في مجتمع متعفّن، إلى المصير التائه الذي عرفته إحسان في "القاهرة 30"، وصولاً إلى اصطداماتها العنيفة بالسلطة الاجتماعية في "الحب الذي كان" أو في حالة التمزّق التي عاشتها نادية في "غرباء" وناهد/ ميرفت في "بئر الحرمان"، أو في مسلسها الوحيد "حكايات هو وهي" (1985) الذي يقدّم تشريحاً لعلاقة المرأة والرجل ضمن حبكات خفيفة. وكان هذا المسلسل قد توقّف بعد تصوير عشر حلقات منه، وقد أشير أن أحد أسباب ذلك عودة محاولات المخابرات توظيفها.
أشهر أدوارها ضمن هذا الإطار النسوي كان في فيلم "خلي بالك من زوزو"، وهو عمل ربما غطّت جماهيريته على رسالته الاجتماعية، حيث تنقسم سعاد حسني بين الفتاة المثالية في الجامعة (زينب) والراقصة (زوزو)، ولا تعرف كيف توائم بينهما في مجتمع يبني جدراناً بين أفراده.
هكذا كانت الممثلة المصرية تتحوّل في طريقها المأساوي إلى أيقونة للفرح وأحد عناوين ما بات يسمى بـ"الزمن الجميل"، أو هذا ما نشعر به خصوصاً كلما جرى اقتطاع أغانيها عن سياقات أفلامها، وحياتها، وأشهرها: "يا واد يا تقيل" و"الدنيا ربيع" و"حبيبي انت يا فيلسوف" و"أنا لسه صغيّرة". ربما ساهمت هذه الصورة أيضاً في عدم تصديق أن سعاد حسني انتحرت.
كأنما أتت المذكّرات خلاصة لهذه المشاهد السينمائية، محاولةً لفتح ثقب من الضوء حول ما تتعرّض (أو يمكن أن تتعرّض) له فتاة حالمة بتحقيق ذاتها، في الفن أو في مجال آخر في بلداننا. فخلف أضواء السينما والاستعراضات تقف الوحوش لتقتنص الفرائس بلا ثمن، في الوقت الذي يكون فيه الجمهور مستمتعاً ومأخوذاً بالأضواء والألوان، فلا يسمع نداء المغتصبة.
في صيف 2001، رحلت سعاد حسني. هل كانت مذكراتها ستخلخل نظام مبارك قبل عشر سنوات من سقوطه المدوّي في ميدان التحرير، كما ذهب البعض؟ هل كانت مذكراتها ستتحوّل إلى حجة على من نهشوا لحمها وهي على قيد الحياة؟ ثمّ ها أن المذكرات قد نُشرت فصول منها كثيرة في "روز اليوسف" في 2011، فماذا حدث؟ بدت أقرب إلى سبق صحافي ومادة للإثارة، وتصفية حسابات صغيرة في اللعبة السياسية الجديدة التي توزّعت أوراقها بعد الثورة.
خلاصة "الحدوتة" أن البيئة العربية كما تشكّلت قد جعلت من أي مواطن مهيأً ليكون ضحية للتلاعب والابتزاز. بيئة محكومة بعدوانية تجاه كل من يريد قول حقيقة، وكأن كل شيء عليه أن يسير بقوة التزييف. مذكرات سعاد حسني لعبت دوراً في الحدوتة. انتهى المشهد، ولكن الفيلم لا يزال مستمراً.