في مطلع خمسينيات القرن الماضي، أثار فريد الأطرش استياءً في الجزائر، بعد عرض فيلمه "آخر كدبة"، الذي أنتجه وأدّى دور البطولة فيه إلى جانب سامية جمال وإسماعيل ياسين. والسببُ هو رحلةٌ مِن أربع عشرة دقيقةً يطوف خلالها الفنّان المصريُّ أقطار البلاد العربية على "بساط الريح" القادم من عوالم "ألف ليلة وليلة"، في الأغنية التي كتبها بيرم التونسي ولحّنها الأطرش وشاركته عصمت عبد العليم أداءها، وكانت مِن بين خمس أغانٍ تضمّنها الفيلمُ الذي أخرجه أحمد بدرخان.
كانت المرارةُ التي شعر بها الجزائريّون كبيرةً وهُم يُشاهدون البساط السحريَّ المتخيَّل يقفز مِن مرّاكش في المغرب إلى تونس من دون أن يحطَّ بالأراضي الجزائرية التي كان شعبُها يستعدُّ لخوض واحدةٍ من أبرز الثورات التحريرية في القرن العشرين.
في خضمّ تلك الخيبة، فكّر شابٌ عشريني آتٍ من مدينة تيارت غرب الجزائر، اسمُه علي معاشي (1927 - 1958)، في "ردّ الاعتبار" إلى بلاده من خلال الأدوات نفسِها؛ أي الموسيقى، فألّفَ أغنيةً من خمس عشرة دقيقة بعنوانٍ "أنغام الجزائر" (1956)، ينتقلُ فيها بين مختلف مناطق الجزائر بألحانٍ تُمثّل كلّ منطقة، وهي الأغنيةُ التي ستُصبح أكثر أعماله شهرةً على الإطلاق، وستتحوّل إلى ما يُشبه النشيد غير الرسمي للبلاد.
وكان الكثيرون يتوقّعون مستقبلاً فنّياً زاهراً لذلك الموسيقي الشاب، غير أنّ مسيرته ستتوقّف بعد سنتَين فقط من ذلك، ولم يكن سنُّه يتجاوز الثلاثين؛ إذ أقدمت سلطات الاحتلال الفرنسي على إعدامه في تيارت في مثل هذا اليوم من عام 1958.
وقبل أن يعود إلى مسقط رأسه وتنتهي حياتُه القصيرة بتلك الفاجعة في أوج الثورة الجزائرية، بدأ معاشي حياته الفنية بعد إنهائه الخدمة العسكرية الإجبارية التي أدّاها في القاعدة العسكرية الفرنسية بمدينة بنزرت التونسية؛ حيثُ أسّسَ سنة 1953 فرقةً موسيقية باسم "سفير الطرب"، طاف بها عبر بعض البلدان العربية مثل تونس ومصر، قبل أن يعود إلى الجزائر ويحصل على وظيفة مهندس صوت في إذاعتها بالجزائر العاصمة.
خلال تلك الفترة، ألّف ولحّن وأدّى عدداً من الأغاني التي تراوحت مواضيعُها بين ثيمتَين رئيسيَّتين هما الوطنُ والمرأة؛ مثل: "يا بابور" أولى أغانيه، و"تحت سماء الجزائر"، و"طريق وهران"، و"النجمة والهلال". وهي أغنياتٌ تندرج في نوعها ضمن الأُغنية الوهرانية، مع ميلٍ واضحٍ إلى اللحن الشرقي من دون طمس روحها المحلية.
وعند اندلاع الثورة التحريرية عام 1954، لم يتردّد علي معاشي في دعمها بكلماته وألحانه وصوته، حتى بات بمثابة ذراع فنّي لها، قبل أن يلتحق بصفوفها عام 1957، وفق مصادر تاريخية، وتُسند إليه قيادة الثورة مهمّة نسخ النشيد الوطني (كتبه الشاعر مفدي زكريا) استناداً إلى نسخته الأصلية وتوزيعه على المواطنين.
بعد فترةٍ قصيرةٍ من ذلك، اكتُشف أمرُه مِن الاحتلال الفرنسي الذي كان قد ضاق ذرعاً بأغانيه، فاختطفه وأعدَمَه شنقاً مع مناضلَين آخرين في "ساحة كارنو" (التي ستُصبح "ساحة الشهداء" لاحقاً) قريباً من الحيّ الذي وُلد وعاش فيه، قبل أن يُنكّل بجثامينهم ويعلّقها ويجمع السكّان لمشاهدتها. لكن، وبدل أن يطمس صوته إلى الأبد، تحوّلت ذكرى إعدامه إلى "اليوم الوطني للفنّان" في الجزائر، وما يزال استشهادُه صرخةً في وجه همجية الاحتلال تعود في كلّ عام.