يمزج الكاتب المصري الكبير يوسف إدريس في رحلته إلى بلدان شرق آسيا التي قام بها في سنة 1970، وأصدرها سنة 1972، في كتاب عنونه بـ "اكتشاف قارة"، بين تقنيات العمل الصحافي وبراعة أسلوب الكاتب الذي يغرف من مهنته ككاتب روائي وقصصي ومسرحي.
وبالتالي تمثل رحلته أسلوبا آخر في كتابة الرحلة، إذ يبرع إدريس بموهبته العالية في الخروج عن الأسلوب التقليدي المعروف في كتابة الرحلة، والمعتمد على تدوين اليوميات والانطباعات وتجميعها في نهاية الرحلة في كتاب، ليضع القارئ أمام محصلة ثقافية ومعرفية، تقدم له مادة خصبة، ومفاتيح أخرى لفهم العالم الجديد الذي يدخله الرحالة، ثم ليزيل شيئا فشيئا تلك الطبقة الصلبة من الغبار، التي تشكلها الانطباعات القبلية والأحكام الجاهزة، والتي تكون قد تكونت، بسبب تداول الكليشيهات حول الشعوب والديانات والثقافات الأخرى المفارقة لنا، والمختلفة عنا.
يبرز جليا مدى الهوى الذي سقط في نفس يوسف إدريس، وحبه لتلك البلدان التي زارها من الهند إلى اليابان وفيتنام وهونغ كونغ والصين وغيرها من البلدان، التي تعكس النمور الآسيوية التي بدأت من تلك الفترة في فرض نفسها على الساحة الدولية، كبديل لأوروبا العجوز، على المستويات كافة، التقنية والاقتصادية، وكقوى صاعدة في المجال العسكري.
انتحار ميشيما
يصادف وصول الكاتب يوسف إدريس إلى اليابان حدث كبير ومزلزل، يتمثل في إقدام الكاتب الياباني المشهور يوكيو ميشيما على الانتحار بطريقة الساموراي التقليدية. لم تكن الدوافع واضحة، وهذا ما جعل الصحافة العالمية تخص هذا الحدث بتغطيات واسعة.
فشخصية ميشيما كانت تبدو من الظاهر شخصية قوية، ومحبة للمغامرة، زيادة على كونه في عز مجده الأدبي حين أقدم على الانتحار وهو ابن 45 سنة.
لقد عاب يوسف إدريس على الكاتب آرثر ميلر تعليقه على حادث الانتحار، بكون ميشيما لم يعد له ما يكتبه، واستطرد إدريس، كيف يكون ذلك، والرجل في أوج عطائه وشبابه الأدبي؟.
يكتب "قبل أن أصل إلى اليابان بيوم، كانت الجزر اليابانية الأربع تهتز بحدث وإن لم يكن الأول من نوعه في تاريخ اليابان، فإنه فريد في بابه، وخطير وغريب.
كان «ميشيما» كاتب اليابان الأول، وأعظم روائي ظهر فيها بعد الحرب، كانت هذه الشخصية الفريدة ذات الأبعاد العشرة؛ فهو كاتب، ومخرج سينمائي، وممثل، وبطل مصارعة وركوب خيل، ورياضي، وقائد جيش خاص من صنعه، وذو نهم شديد إلى النساء، وذواقة للساكي «النبيذ» الياباني الشهري المصنوع من الأرز، شخصية تكاد تكون أشهر شخصية أدبية في كل شرق آسيا، كان قد أقدم على الانتحار بالطريقة المشهورة «الهريكاري».
وكانت ضجة الحدث داخل اليابان وخارجها على أشّدها؛ فقد كان السبب غريباً، والملابسات أغرب، وشيء كجو الأساطير القديمة، كنفحة من رائحة آسيا الغامضة الدفينة، قد بدأ يتسرب ويداعب الأنوف. ولم يحنقني شيء في هذا كله قدر حنَقي على «آرثر ميلر» الكاتب المسرحي الأميركي المعاصر، وأنا كنت دائما بيني وبين نفسي أتحاشى الحكم على ميلر؛ فمن قراءاتي ومشاهداتي لأعماله أسميه بيني وبين نفسي أيضا الكاتب الذي يحاول أن يكون عبقريا.
ولأن العبقرية ليست وليدة الاجتهاد، بل إن الاجتهاد للوصول إليها أمر يحسب على الشخص لا له؛ فقد بقي ميلر في خاطري كاتب تمثيليات إذاعية أتقن صنعة الدراما وعالج بها مواضيع تساير تيار التقدم في العالم، فرفعه السابحون في التيار إلى مصاف اكتشاف قارة العباقرة الكبار. ولم أكن أعتقد أن رأيي هو الصواب، ولكني أيضا لم أتوقع أن يتأكد ظني فيه بالذات في تلك المناسبة وعلى هذه الصورة".
ويمضي يوسف إدريس في دفاعه عن ميشيما "ففي مجلة «النيوز ويك» كان موضوعها الرئيسي هو انتحار ميشيما ومغزاه ودلالته، ولتغطية الحدث تولَّت المجلة أخذ رأي بعض الشخصيات الأميركية المهمة فيه. وكان ميلر على رأس القائمة، وكان ما قاله أسخف ما قيل؛ فبعد أن اعترف بميشيما ككاتب رواية وجرحه بشدة ككاتب مسرح، قال ما معناه: إن ما فعله ميشيما ليس سوى فاصل استعراضي أنهى به حياته؛ لأنه تأكد أنه لم يَعد لديه ككاتب ما يقوله.
ميشيما بالمناسبة مات في الخامسة والأربعين، ولا أعتقد ولا يُمكن أن يعتقد أحد أن كاتبًا خصبًا مثله ينتهي في سن كهذه أو يدفعه تأكده أنه انتهى ككاتب ليُنهي حياته كإنسان.
وأيضا ليست هذه هي القضية، لقد بدا لي رأي ميلر بعد جولة آسيا واستقراري في اليابان وبداية تعرفي على عناصر اللغز الآسيوي أن تعليقه، حتى بفرض أنه كاتب تقدمي، لا يَختلف عن معظم التصرفات الأميركية الرعناء تجاه آسيا، وأن الإنسان الآسيوي سيظل لغزا عويص الفهم، بل ربما مستحيل الفهم حتى على أولئك الذين من جملة عقيدتهم وعملهم فهم الآخرين وتقدير وجهات نظرهم".
ويضيف "لست أعرف كيف كان بإمكاني أن أجسد ما أريد قوله لو لم تجئ قضية ميشيما لتزودني بكثير من الحقائق والشواهد لم أكن أحلم بها. في وقت الزيارة ولكن - قبل الفهم وقبل أي شيء آخر - كان الحادث قد مس قلبي بعنف، ولو تأمله كل منا قليلا لما استطاع أن يُفلت من تفسيره، ولم لا أقول: إني ترجمت الحادث إلى واقعنا فورا وتصورت أكبر كاتب لدينا، وقد رتَّب لعملية إجهازه على نفسه وكأنما يُرتِّب لعمل فني، وبنفس الإحكام؟ كان عليه أن يُكمل الجزء الأخير من رباعيته الروائية التي تتناول حياة اليابان خلال الستين عاما الأخيرة".
قوة الإرادة
يصور يوسف إدريس دقة الكاتب ميشيما وحرصه على الوفاء بالتزاماته قبل إقدامه على فعل الانتحار الإرادي، يقول "كان ثمة فصلان ناقصان لإنهاء الجزء الرابع والأخير. وبأي ذهن وأعصاب ووجدان كان يَقضي ميشيما معظم ليالي الأسبوع الأخير من حياته ساهرا لكي يَنتهي من العمل تماما قبل حلول اليوم الذي كان قد حدده من قبل لتنتهي حياته فيه، حتى والموت الإرادي قادم متصور أنه لا بد أن تطير له العقول شعاعا، لم يَطر له عقله.
صبيحة يوم الانتحار، وبإتقان شديد، أكمل الفصل وسلمه للناشر مكتوبًا على الآلة، وفي صبيحة يوم انتحاره سلم الكاتبة ومصحح الأخطاء، وهو أبدا ليس رجلا من فولاذ، إنه فنان مرهف الحس تماما، لديه مخزون هائل من الإحساس، وهؤلاء المرهفون المزودون بالإحساس الأعظم لم يكونوا يوما ما رجال الإرادة التي لا تتزحزح، ولا رجال الأفعال التي لا يقدم عليها إلا أرباب الإرادات. وكان الناس في هذا نوعين؛ رجال الكلمة ورجال الفعل.
رجال الكلمة يُتقنونها وينبغون فيها لأنهم بتكوينهم غير قادرين على الفعل الكبير، ورجال الأفعال الكبيرة يقومون بها لأنهم عاجزون عن خلق الكلمة الكبيرة التي تحل محل الفعل أو تقوم مكانه".
شعب الإصرار
بلا شك أن وراء كل هذه الدقة جبل هائل من الإصرار، ومن قوة الإرادة، وذلك ما شدّ يوسف إدريس في العالم الشرق آسيوي، والذي يخرج من قمقمه وكمونه الطويل، كي ينقض على العالم.
يكتب "بطولتهم الحقة في كلمة تنطلق منهم مرة يكون لها قوة ألف ضربة، وتظل تضرب وتطيح برؤوس من وما هو أقوى من الخصم والشخص ما ظلَّت عائشة وحية، وبمقدار صدقها والبطولة في قولها تظل تعيش وتحيا.
إنه إذن ليس طبعه الذي أخذ به نفسه، وليست طبيعته، إنما هو الإحساس بالواجب المقدس ذلك الذي أملى عليه فعلا هذه المرة بدل الكلمات، وهو نفس الإحساس الذي دفعه قهر كل كوامن الضعف في ذاته المرهفة الحساسة ويُحيل ما فيها من تحمل إلى كتل صخر، ويعود من الشرفة بعد فشله الذي كان يتوقَّعه في مهمته ليرتدي الكيمون، ويعقد أربطته وأزراره منتهى ضبط النفس والإتقان؛ فلقد فحصت الصور جيدا وأدركت أن صاحبها أبدا لم يُفلت منه زمام السيطرة على أعصابه إلى آخر لحظة.
يجلس وحوله أركان حربه، ويجيء المصورون ويلتقطون له ولرفاقه الصور التذكارية. تم يُمسك بسيف «الساموري» العتيد الذي كان يحتفظ به رغم مخالفة هذا للقانون، ويرفع السيف ثم بسرعة يغمده في أعلى بطنه إلى المنتصف، وهنا فقط يُطلق صرخة قال عنها قائد قوات بشعة، لم أسمع مثلها في الدفاع المدني الذي كانوا قد أسروه، قال: كانت صرخة ألم حياتي.
وما كاد يَحدث هذا حتى كان مساعده الأول منتصبًا خلفه، يرفع سيفه ويَهوي به في سبع ضربات شداد يجتز به عنق قائده حتى يَفصل رأسه عن جسده ليسقط إلى جوار الجثة. ثم يجلس المساعد نفس جلسة رئيسه، ويتولى إغماد سيفه في بطنه. تم يتولى الضابط الثاني مهمة الإجهاز عليه وجز عنقه بسبع ضربات أخرى من ضربات سيفه حتى يسقط الرأس في بركة الدماء.
وإلى هنا كان المشهد الأعظم قد انتهى؛ إذ كانت أوامر ميشيما لرجاله ألا يَموت سواه وسوى مساعده الأول. انتهى مشهد الهريكاري كما ابتدعه وزاوله فرسان «الساموري» في اليابان القديمة".
الشعور القومي أقوى من الفرد
لقد اتخذ يوسف إدريس من واقعة انتحار ميشيما جسرا للعبور إلى الشخصية اليابانية، إنه كما يمكن أن يكون فعل الانتحار هذا بسبب فشل شخصي، قد يكون فعلا احتجاجيا وطنيا، يكتب "كل ما في الأمر أن الرأس الذي سقط هذه المرة لم يكن رأس قائد فشل في حرب، أو ضابط أهمل واجبه، ولكنه كان رأس أعظم موهبة أدبية يابانية في تاريخها الحديث، رأس منذ ساعات كان يكمل بحماس زائد وبخيال ملتهب أهم عمل أدبي كتبه ميشيما أو غيره عن أهم فترة في تاريخ اليابان.
وقد نفهم أسباب انتحاره أو لا نفهم، وقد نستطيع التعاطف معه أو نكتفي برميه إذا ترجمنا الحدث إلى واقعنا، وإذا تصورنا أن أشهر كاتب وأعمق مبدع فينا قد أنهى حياته بيده وعلى هذه الطريقة البالغة البشاعة وهو في أوج مكانته وشهرته وفي عنفوان فحولته، وجائزة نوبل تخطو متهادية إليه، واسمه وأعماله تخطف الأبصار في أركان الدنيا الأربعة؛ إذا ترجمنا هذا للغتنا نحن ولحياتنا ولواقعنا ربما أمكننا البدء في إدراك ما حاولت في المرة الأولى طرحه، من أننا إزاء إنسان مختلف، نفيق من غفوتنا المخدرة بالسأم والتافه إزاء وجه آخر لدنيانا، إزاء أشياء من الواجب أن نُواجه الهايف ونفتح أعيننا ونمسح تعابير العبط والاستعباط من فوق وجوهنا وننتبه، ننتبه مرة أخرى لنصحو من الإغماءة التي طالت. وليتها رغما عنَّا. إنه إغماء ابتكارنا نحن، إغماء بالإرادة، لا يُغمى علينا فيه، وليس هناك مبني للمجهول في المسألة، إنما نحن الفاعل ونحن المفعول، والظرف غير مناسب على الإطلاق".
ويربط ذلك بما يسميه جزالة الشعور القومي عند الآسيوي الشرقي عموما، والذي يجعله مقبلا على التضحية بالنفس بنكران ذات، يقول "الشعور القومي الأمثل إذا صدق الكاتب فإنه يعيش ما يكتبه، وإذا ازداد صدقُه فإنه يكتب ما يعيشه، أما ما فعله ميشيما فهو نوع آخر من «الكتابة - الفعل»، نوع كالمسرح الحديث الحي، حيث لا شيء فيه تمثيل، وإنما كل ما يدور حقيقي وصادق أيضا.
وميشيما لم ينتحر كما أراه، إنما انتحر لسبب قد يبدو للبعض تافها غاية التفاهة ميلر لأسباب نفسية أو أزمة شخصية اعترتْه، وبالذات قد يبدو لنا هنا حيث الانتحار لا يتم إلا لأسباب تتعلَّق بكيان الشخص ذاته أو بمصيره أو بفشله هو، أما أن ينتحر إنسان مثلا لأن نظام التعليم لا يُعجبه، أو لضيقه بالسياسة، فذلك ما لا عهد لنا به وما لا نَستطيع أن نتصوره. ولكنَّك من داخل اليابان آسيا تستطيع.
إن الشعور القومي هناك، رغم كل محاولات إخفائه والتستر ٍ عليه، شعور طاغ تحفل به الأعماق. إنه أول بلد أفاجأ في أول لحظات وجودي فيه ببعض الناس يضعون رباطا طبيّا حول أنوفهم أو يُغطون به عينًا من عيونهم، وحين سألت عن السبب قيل لي إنهم يفعلون هذا حتى لا يُلوثوا الجو حولهم بالميكروبات ويَنقلوا العدوى إلى الآخرين.
إلى هذه الدرجة يهتم الفرد الياباني العادي بالآخرين ويحرص عليهم، حتى وهو في مرضه يُفكر فيهم. إنه إذن الشعور القومي الأمثل. والغريب أن هذا الشعور لا تجده في اليابان وحدها، إن كل مناطق آسيا تحفل به، ذلك الإحساس المتين العميق بالقومية وبالشخصية القومية، وبأنك مهما كنت جزءٌ من كل".