خان الشيح.. تذكّر الخيام الطابقية

16 مايو 2014
عدسة شاب من مخيم خان الشيح
+ الخط -

الأول فينا هو "مخيم خان الشيح"، لكنه اسمٌ فحسب، ولا يزيد عن كونه وصفاً للمكان.
إنه، أيضاً، الخان التركي القديم. صحيح أنه فقد وظيفته بوصفه محطةً بين الأستانة ومكة، ولم يبق منه غير هيكله الخارجي، لكن الصحيح أكثر أنه بقي دلالة لهذا المكان الفلسطيني المؤّقت.

إنه أيضاً وأيضاً، الشيح؛ تلك النبتة البرية التي كانت تغطي المكان، مع أنها تلاشت، أو قَلَّت إلى درجة لا تكفي قطيعاً من الماشية.

كان وصف التأسيس يأخذني دائماً إلى مشهد سينمائي. والصورة التي في حوزة مخيلتي: مجنونٌ يركض بلا أقدام وهو يصيح: "غلتِ البحيرة.. غلت البحيرة".

ألم يأتوا أصلاً من ضفاف طبريا؟

إذاً ليكن ذلك الماء حجر التأسيس الأسطوري!

لكن ما حاجتي لذلك وهذا ماؤنا.. ها هو النهر، النهر الأعوج، واسمُهُ وصفٌ كاملٌ. لأننا من أصول بدوية اعتصمنا بالنهر. القبائل التي هاجرت من فلسطين المنكوبة خيّمت على ضفة النهر لخوف دفين في ذاكرة القوم من غياب الماء، من انعدام الثقة بالسماء، بخلاف الفلاحين الذين يؤمنون بأنها لن تنساهم أينما حلّوا، بينما نحن الذين نؤمن بالأرض، وبماء الأرض، سكنا هنا.

لحسن الحظ أننا وجدنا نهراً أعوجَ نحاكيه. أهل البداوة لا يعرفون خطاً مستقيماً، وبشفاعة اعوجاج النهر شوارعنا كلها عوجاء. ما من شارع يستقيم لأكثر من ثلاثة بيوت.

ماء أعوج ومكان دهليزي.. لكننا واضحون. هل فرّغنا الاعوجاجات الداخلية في المكان؟ هل المكان طوطمنا؟

ولد هذا "الشخص" بداية خمسينيات القرن الماضي، بعدما أقام أهله قرابة سنتين في الجولان السوري، ليكلموا موتهم، قبل توزيعهم على المحافظات السورية. لا أدري منذ متى بدا المكان شخصاً من لحم ودم! كما لا أدري إن كان كذلك أصلاً، أم إن الحرب أعطته صورته الآدمية!

تدرّجت بيوته (والبيوت وجهٌ وملامح) في سلسلة تطورات قبل أن تصل إلى ما هي عليه الآن. في البدء كان الخيمة، ثم جاء الانتقال إلى طور دور الطين. هذا الطور كان بحد ذاته بناء دائماً، فالبيوت الطينية عقبَ كلِّ مَطْرةٍ تحتاج إلى ترميم. ولم يسترح الأهلون من ورشات الشتاء إلا حين مرّ به رجلٌ علّمهم طريقة أكثر عملية، حيث وضع فوق جدران الطين غربالاً ورَشَّه بالرمل المعالج بالماء والكلس. ظل الأمر هكذا حتى وصلنا إلى عصر الباطون، وقتها حدثتْ عملية إعمار شاملة. وفي الحقب الأخيرة حدثت عملية إعمار ثانية حوّلت البيوت أبنية طابقية، لكن لا وعيها العمرانيّ، الذي ظل وفياً للخيمة، جعل البيوت تبدو خياماً طابقيةً.

كان المقرّر لهذا الشخص في لوحه التأسيسي أن يعود، لكنّ ما جرى كان عَوْداً آخر، عوداً على بدء. ففي الحرب التي توجتها البراميل أصبح آخرُه كأوله، وصار على واقعنا نحن الأبناء أن يتحوّل إلى استنساخ لذاكرة أولئك الآباء.

في أُخرياتِ "خان الشيح" كما في بداياته، غابتِ الكهرباء، وصار العالم ليلاً طويلاً، فكان لا بد لأهله أن يعودوا إلى النار؛ النار للأكل، للإنارة، للتدفئة. في بداية هذا العَود بدت النّار الصغيرة في البيت من منقل حطب أو قنديل زيت ناراً تطوّع معدنَ الخوف، ومعدنَ الألفة، وهي تعيد صهر الأفراد في ذاتٍ جماعيّةٍ من جديد، فالجماعةُ الآن حاجةً فرديةً، وبنيراننا الصغيرةُ تجتمع، جذوةً.. جذوةً، كي لا تسمح للجحيم بأن يكون كاملاً.

لأجل تلك النار انهمكنا جميعاً في تقطيع الأشجار. رحنا نشنّ الغارات على البساتين والمزارع بالفؤوس والمنشارات. صواريخ الحدادين والبلاطين تحوّلت إلى منشارات كهربائية. السيارات الزراعية التي كانت تستخدم لنقل الأسمدة والشتلات من أجل منح الأشجار حياةً مديدةً، صارت تتكفّل بنقل جثثها. ارتكبنا تلك المجازر ونحن نعرف جيداً أنه ليس في وسعنا أكثر مما كان في وسع أسلافنا، سكان الخيام القدامى. يوسف وهو يهوي ببطلته على جذع زيتونةٍ لها هيبة إلهةٍ قالنا: "نموت مع أشجارنا أفضل من أن نموت كلٌّ على حدةٍ".

عادت دكاكين كل شيء حين عاد اقتصاد الحاجة. أول وآخر واحدة من هذه الفصيلة كانت دكانة "أبو عرب"، تلك التي أخفتها التحولات العصرية، ومثل كثيرٍ من أشياء كانت في لوح المخيم المحفوظ عادت لتفرّخ. عادتْ دكاكين كل شيء، ومن محل واحدٍ يمكنك أن تبتاع الأدوية والحلويات وحاجيّات النساء واللوازم المدرسية والأكفان، المازوت وزيت الكاز وأسطوانات الغاز والبوابير والقناديل.. إلخ.

كان لا بد بعد تلك التحولات التي طالت هذا "الشخص"، من تهميشه إثر انتقال الثقل الفلسطيني إلى داخل الأراضي المحتلة، ومن غياب الشعارات الثورية عن جدرانه، حين صار التغيير فاضحاً في ثقافة تسمية محلاته التجارية بعد الانتقال من الأسماء الوطنية إلى الأسماء الدينية، ومن توسعه الكبير خارج الدائرة التي رسمتها "الأونروا".. كان لا بد أن ننتبه إلى أنه رغم ذلك ظل ذاتَهُ، وظل ذلك "الشخص" المنكوب حاملاً لعنته الخاصة التي تنبئ أن العالم كله، منذ آدم، ليس أكثر من مخيم.

كما كان لا بد أن ننتبه إلى أننا، نحن بالذات، ذلك "الشخص" الذي يلتف بين مقبرتين، شرقيةً وغربيةً، وبينهما يصنع الحياة. وأننا ذلك "الشخص" الذي يسمي جهاته هكذا: "تحت النهر" و"فوق الطريق"، حين يريد أن يشير إلى شرق النهر أو غرب الطريق العام، دون أن يعني الغرق في الأولى، أو الدهس بالثانية، لكنّ دلالاته مشتقة من قاموس الفناء.


* شاعر فلسطيني من أسرة العربي الجديد

المساهمون