على خطى جوزيف كونراد، ركِب ألن فاليرز البحر ليكتب عنه هائماً بـ"قلب الظلام" لعلّه يضع قطعة توازيها، إلّا أنه انزاح أكثر نحو المغامرة التي منحته اكتشاف معارف وعوالم وجغرافيا جديدة، قادته إلى أن يوثّق رحلاته بمؤلّفات تمزج بين المذكّرات وقراءات في تاريخ البحار وتجارتها وحروبها وبين علم الملاحة وصناعة السفن.
في الخامسة عشر، ترك البحّار والكاتب والفوتوغرافي الأسترالي (1903 - 1982) منزل العائلة وارتحل شرقاً وغرباً قرابة ثمانية أعوام، حتى وضع كتابه الأول "صيد الحيتان في المحيط المتجمّد الجنوبي"، ليُتبعه بستّة عشر مؤلّفاً تضمّنت سجل أسفاره، قبل أن يعتزم التوّجه نحو شبه الجزيرة العربية لمرافقة عدد من بحّارتها المشهورين عام 1938.
لم تكن دوافعه واضحة تماماً، إلّا أنه يشير، في مقدّمة كتابٍ سيصدره عام 1940، إلى اضطراره لبيع سفينته التي سمّاها "جوزيف كونراد"، وأن رغبة اجتاحته للتعرّف إلى ملاحة الشرق، بدءاً من العرب الذين كان يعي أنهم يفقدون دورهم في البحر لأسباب عديدة، ومروراً بالهنود والباكستانيّين والملايو، ووصولاً إلى الصينيّين واليابانيّين.
حتى نهاية الشهر المقبل، يتواصل معرض "ألن فاليرز وأبناء السندباد" الذي افتتح بداية الشهر الجاري في "دار الآثار الإسلامیة" بالكويت العاصمة، ويضمّ الصور التي التقطها أثناء الرحلة التي بدأت من الجزيرة العربية إلى شرق أفریقیا، ودامت تسعة أشھر، وقُطعت خلالھا عشرة آلاف، میل قبل العودة إلى الكويت.
يحمل المعرض عنوان كتاب فاليرز ذاته، والذي نقله إلى العربية المترجم الفلسطيني نايف خرما سنة 1982، ويفتتحه من وصف خليج المعلا في اليمن بما يحتويه من تفاصيل دقيقة للمكان دأب على تدوينها على هذا الشكل في معظم مؤلّفاته، إلى جانب تقديم ما يمتلكه من معلومات وتقييمات حول الأوضاع السياسية والاجتماعية في الأماكن التي كان يزورها.
تُبرز الصور المعروضة المحطّات الرئيسية في رحلة القبطان الأسترالي على ظھر سفينة "البوم السفار" أو "بیان" التي انطلقت من بحر العرب والبحر الأحمر وصولاً إلى سواحل شرق أفريقيا في زنجبار ومومباسا في كينيا، والتي استعرضها في مؤلّفه، مبيّناً أنواع السفن ومحرّكاتها والمواد المستخدمة في بنائها، وطبيعة حمولاتها وفئات أوزانها، وأوصاف بحّارتها وعاداتهم وسلوكياتهم، ووظائف من على متنها وتراتبيتها واختلاف المهام بينهم، وطعامهم وشرابهم والأوبئة التي كانت تصيبهم.
لم يُخف "الشيخ ماجد"، كما كان يطلق "النواخذة" (تسمية تجّار البحر) على فاليرز، انبهاره بالعرب الذين كانوا يخوضون غمار المحيطات في رحلات طويلة على متن سفن شراعية، ورغم ما يظهره من اطلاع على تاريخ المنطقة إلا أن أحاديثه عن تلك المراكب وبساطة ربابنتها يشي بحنين رومانسي لرجل كان يعرف أن زمنها سيندثر عمّا قريب، بل وكان يعلم أنه عليه الخروج من البحر أيضاً إلى البر، الذي لم يؤمن يوماً أن أهله يعيشون بحرية، ويكتفي بالتأمل والكتابة من بعيد.
التقى فاليرز بالبحّار الكويتي علي النجدي لقاءً بلا مودة سينتهي إلى تحفّظ وحذر يمارسهما كلّ منهما تجاه الآخر طوال تلك الرحلة، لكن الاثنين كانا يقدّران جيداً خبرة بعضهما بعضاً، وتُظهر كتابته أنه من النوع الذي يغيّر انطباعاته في حال اكتشف خطأها، وتُنبئ عن استعداده المسبق لخوض أية مغامرة مهما كانت ظروفها قاسية.
لم يتسنّ لمؤرّخ البحر أن يكمل تطوافه في الشرق، وظلّت رحلته العربية يتيمة في هذا الإطار، حيث التحق بعدها بصفوف البحرية البريطانية بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، ليكمل حياته في مدينة أكسفورد البريطانية، ويتفرّغ للكتابة تاركاً وراءه أربعة وأربعين كتاباً والعديد من المقالات والمحاضرات وأفلاماً وألبومات صور موضوعها الأساس هو البحر؛ تاريخاً وعلماً وسرداً.