لم تحظ البلدان المسلمة في البلقان، مثل البوسنة والهرسك وكوسوفو وألبانيا، بالاهتمام ذاته الذي تشكّله الأندلس في الذاكرة العربية لأسباب عديدة، ربما يكون في مقدّمتها أن تلك الشعوب عاشت تحت حكم العثمانيّين، ما جعل تواصلها يتركّز على الثقافة التركية.
لكن ذلك يغفل نقطة أساسية تتمثّل في هجرة البشانقة (أهل البوسنة) إلى الأناضول وبلدان عربية بعد مؤتمر برلين عام 1878 في أعقاب هزيمة الدولة العثمانية أمام النمساويّين، فشكّلوا جزءاً من نسيج المجتمع، متفرّدين بخصوصية ثقافية تمزج الشرق بالغرب، ثم سارت الأحداث لتتكرّر المأساة بصورة ثانية حين واجه البوسنيون في بلادهم مجازر الصرب عام 1991.
المفارقة التي يستحضرها أستاذ الأدب المقارن، محمد الأرناؤوط، في كتابه الصادر حديثاً عن "الآن ناشرون وموزّعون" تحت عنوان "البوسنة والهرسك خلال الحكم العثماني" تتمثّل في أنّ تصاعد الاهتمام فجأةً بمأساة البوسنيّين خلال حرب البلقان (1992 - 1995) أنتج قرابة عشرين كتاباً أُلّفت ونُشرت على عجل، ولكن سرعان ما انحسر هذا الاهتمام، وأصبح من النادر نشر كتاب عن البوسنة.
تأتي أهمية الكتاب في غنى مصادره التاريخية وتنوّعها، انطلاقاً من تأسيس سراييفو؛ عاصمة البلاد، التي كانت مجرّد قرية حين وصل العثمانيّون إلى خاصرة البوسنة عام 1450.
يدرس الأرناؤوط التطوّر الاجتماعي والاقتصادي فيها بتتبّع نظام الوقف الذي تأسّس مع اكتمال الفتح العثماني، موثّقاً لأول وقفية أقامها عيسى بك، مؤسّس سراييفو، والتي استقطبت اهتمام الباحثين خلال القرن الماضي، ولا تزال وثيقتها المصدّقة محفوظة في سجل المحكمة الشرعية بالمدينة، وقد كُتبت باللغة العربية، وهي اللغة التي دخلت البلقان مع العثمانيّين، وأصبحت من لغات الثقافة الجديدة (الإسلامية) التي ساهم بها البشانقة بما ألّفوه بعد انتشار الإسلام هناك.
يلفت المؤلّف إلى أن الوقفية كُتبت بلغة عربية جيّدة لا تشوبها سوى بعض الأخطاء البسيطة التي تكاد لا تلحظ، مع استخدام بعض الكلمات العثمانية في مواضع محدودة، وهي محاولة مبكرة لكتابة الأسماء السلافية بالحروف العربية.
يفصّل الكتاب الوقفيات اللاحقة، ومن أبرزها ما أنشأه الوالي خسرو بك الذي أقام أوقافاً ضخمة حملت سراييفو إلى عصرها الذهبي في القرن السادس عشر، موضّحاً ما شهدته البوسنة من تطوّر يتعلق بظهور "وقف النقود" الذي أصبح يُعتَبر ثورةً في الفقه الإسلامي؛ حيث تحوّلت الأموال الموقوفة إلى ما يشبه "مصارف إسلامية" تُقدّم القروض للتجّار والحرفيّين بفائدة، وتُحوّل العائد منها للإنفاق على المنشآت التي تقدّم الخدمات للمجتمع، من جوامع ومدارس ومطاعم للوجبات المجانية وغيرها.
يعرّج الأرناؤوط على وقف فريد في مدينة موستار خُصّصت عوائده لما يُسمّى اليوم كرسيّ تدريس أشعار "المثنوي" لجلال الدين الرومي، كما يرصد كتب الرحلات التي تركها الرحّالة الذين انطلقوا من البوسنة للحج وتحوّلت رحلاتهم إلى فرصة لوصف معالم وشعوب المناطق على الطريق الطويلة الممتّدة، ومنها رحلة الشاعر مصطفى البوسوي إلى مكّة المكرّمة في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي.
تتناول الدراسة مرحلة دقيقة عاشها البوسنيون بعد الاحتلال النمساوي عام 1878 وصولاً إلى عام 1908، حيث كانت الإدارة بيد النمساويّين بينما احتفظت الدولة العثمانية بسيادة رمزية، في حالة تشبه مصر الخديوية في الفترة ذاتها تقريباً.
ويستعرض الأرناؤؤط مؤلّفات أعلام البوسنة، ومنهم الشيخ مصطفى أيوبوفيتش الموستاري الذي عاش في القرن السابع عشر ومؤلّفاته في اللغة العربية، مثل كثيرين غيره كتبوا بلغة الضاد، متتبعاً أيضاً تراث البوسنة في اللغات الشرقية وإسهامه المتنوّع في الثقافة الإسلامية.