الفن الإيراني الحديث.. تاريخ يُنشر الآن

05 يونيو 2014
لقطة من فيلم لـ بارفيز كيميافي
+ الخط -

لا يمكن تفويت المعرض الضخم الذي افتتح حديثاً في متحف باريس للفن الحديث تحت عنوان "تاريخ غير منشور ـ إيران 1960 ـ 2014"؛ فمن خلال أكثر من مئتي عمل فني، يُعرض معظمها للمرّة الأولى، يتيح لنا منظموه نظرة جديدة على الفن والثقافة البصرية في إيران خلال السنوات الخمسين الأخيرة.

تكمن أهمية هذا المعرض في عدم سعيه إلى خطّ تاريخٍ للفن الإيراني الحديث، بل إلى استخلاص الظروف الاجتماعية والسياسية التي تشكّلت فيها الثقافة البصرية في إيران، منذ الستينات وحتى اليوم. ولهذه الغاية، استُقدمت أعمال لعشرين فناناً إيرانياً حديثاً ومعاصراً لجؤوا إلى وسائط مختلفة، كالرسم والتصوير الفوتوغرافي والفيديو والتجهيز، وابتكروا أعمالاً مثيرة ضمن علاقة نقدية مع وسائطهم والأشكال الرائجة، وبالتالي ساهموا في إعادة التفكير بالطريقة التي كُتب فيها التاريخ الثقافي والسياسي لبلدهم.

سنوات التحديث (1960 ـ 1978)

في هذا القسم، يتبيّن لنا كيف تحوّلت الثقافة في إيران عند مطلع الستينات إلى رهان وطني، مع تطوّر ملحوظ في الفنون البصرية والمشهدية. وأبعد من النقاشات حول هوية فنٍّ غير غربي، سعى الفنانون إلى إعادة تحديد الحديث، من خلال التأسيس لأحداث فنية كبرى، كالمعارض الضخمة والمهرجانات الدولية، وأيضاً من خلال خيارات شكلية وتقنية معقّدة، وتمثيلات رمزية جمعت القديم والحديث، التاريخ والأسطورة، السياسي والميتافيزيقي.

الفنان بهمن محسّس (1931 - 2010) يشكّل وجهاً بارزاً ونموذجياً لتلك الفترة. فحواره مع الفن الأوروبي وتنوّع عمله كرسّام ونحات ومترجم (جينيه، يونيسكو، مالابارت، بيرانديلّو...)، يجعلان منه فناناً شاملاً بامتياز. وهو بدون شك الأول، في المحيط الفني الإيراني، الذي أفلت من المأزق الهوياتي الذي تخبّط فيه معظم مجايليه.

من جهتها، عرفت بهجت صدر (1924 - 2009) شهرة دولية قبل تقع في النسيان، وأدّى انخراطها في اختبارات فن الحركة الأوروبي وترجمتها لهذه الاختبارات بلغةٍ استنباطية، إلى استحالة تصنيفها داخل جيل الستينات والسبعينات. فبينما تأرجح عدد من معاصريها بين تجريد وتصوير، ظهرت الفنانة كالأكثر تصميماً وابتكاراً داخل جمالية الأثر. ويعود عدم فهم فنّها الذي زاوج بين فن التخطيط والمقاربة العلمية للحركة، إلى تخلّيها فيه عن أي أثر يرتبط بالهوية "الإيرانية" الصرفة.

عمل لـ بهجت صدر


أما الفنان بارفيز كيميافي (1939) فينتمي إلى مدرسة "الموجة الجديدة، وبالتالي إلى جيل من الفنانين الإيرانيين الذين مدّهم التلفزيون الإيراني بما يلزم من معدات لتصوير الإرث الوطني والحياة اليومية للإيرانيين في مختلف المناطق. ونشاهد له في المعرض على خمس شاشات مونتاجاً من سبعة أفلام أنجزها في السبعينات ومُنع عرضها آنذاك، ثم هُمّشت بعد الثورة؛ وتتميّز بزمنيات معقّدة وحيوية مذهلة نظراً إلى بلبلتها للحدود التي تفصل بين الوثائقي والخرافي، بين التاريخ المُعاش والتاريخ المحلوم.

ويحضر الغرافيكي مرتضى مميّز (1935 - 2005) بأعمال من مرحلة شبابه: أغلفة المجلة الأدبية "كتاب هفته" (كتاب الأسبوع) التي صدرت في مطلع الستينات ونشرت كتابات لأندريه جيد وتولستوي ومكسيم غوركي وطاغور وتينيسي ويليامس... بترجمات للشاعر أحمد شاملو، مدير المجلة، ولكتّاب إيرانيين آخرين. ونشاهد أيضاً أعداداً من مجلة "كتاب الجمعة" التي حلّت مكان المجلة السابقة وتنبّأت بالثورة القادمة، وحملت أغلفتها رسوماً تجمع بين الكاريكاتير السياسي والأسلوب الوثائقي.

ولا يحضر أرديشير محسّس (1938 - 2008) برسومه الشهيرة بل من خلال مكتبة "مثالية" تتألف من كتبه الفنية ومنشورات مختلفة تكشف مساره كرسّام كاريكاتير بدأ عمله في صحف شعبية وأسبوعيات ساخرة، قبل أن يعمل لمجلة "جون أفريك" الفرنسية (1972)، وصحيفة "نيويورك تايمز" (1973) وينشر رسوماً تربط الظرف الاجتماعي والسياسي في إيران بفضاءات أخرى وأحداث دولية كبرى.

وتختم هذا القسم من المعرض وثائق بصرية غير منشورة، مثل ملصقات "مهرجان شيراز للفنون" (1967 ـ 1978) الذي ساهم، بتشكيله فضاءً فريداً لاجتماع الطلائع الفنية الغربية وفناني آسيا وإفريقيا، في تأجيج الحراك الفني الذي سبق الثورة؛ وصور فوتوغرافية التقطها الفنان كافيه غولستان لمومسات حي "شهر نو" في طهران بين 1973 و1975، وتعكس بؤسهم وحياتهم الصعبة.

الثورة وحرب الخليج الأولى (1979 ـ 1988)

في هذا القسم، يتجلى لنا كيف أنتجت الثورة الإسلامية في إيران عدداً كبيراً من الصور تعكس أصوات ونظرات متناقضة وتكشف ذاتيات بقدر ما تكشف تمثيلات جماعية ولجوءاً كثيفاً إلى الممارسات الوثائقية. وفي هذا السياق، نشاهد الأرشيف المصور لكمران شيردل (1939) -المجموع تحت عنوان "ذكريات تدمير" - الذي يوثّق لغزارة الملصقات والتدوينات على جدران طهران، ولحالة الإثارة التي عرفتها كلية الفنون الجميلة في طهران حيث نظّمت مجموعة طلاب (سمّت نفسها في ما بعد "مجموعة 57") أول معرض جماعي للمصلق الثوري.

ولإظهار تنوّع الممارسات في هذا المجال، قُسّمت الملصقات المعروضة إلى عدة مجموعات: "مجموعة 57"، الأخوة شيشيغاران، ملصقات الفنانين المجهولين، إلى جانب مجموعات بديلة. وتكشف ملصقات الأخوة شيشيغاران التي توثّق لتاريخٍ أو حدثٍ خاص من حقبة الثورة، عن معرفة دقيقة بتيارات "Agit Prop" وبالفن الثوري الذي تطوّر في بلدان أخرى (روسيا، المكسيك، وأيضاً أميركا خلال حرب الفيتنام، وفرنسا خلال أيار 1968)، كما تشكف عن تحويلٍ حاذق لقوانين هذا الفن من خلال إشارات مبلبلة وملتبسة وأحياناً فكاهية.

لكن الملصقات الأكثر جاذبية تعود إلى كاظم شاليبا (1957)، ويتجلى فيها اطّلاعه العميق على الرسم الحديث، من الواقعية الفرنسية في القرن التاسع عشر وحتى فن الجدرانيات المكسيكي، وعل علاقات الفن والسياسة من جهة، والفن والشهادة التاريخية والرغبة في مد الصور بقدرة على الكلام والفعل، من جهة أخرى.

عمل لـ كاظم شاليبا


وفي السياق ذاته يندرج فيديو "زهور" الذي يحيي بهمن كياروستامي (1978) فيه أرشيفاً تذكارياً: الصور الأولى التي بثّها التلفزيون الإيراني الرسمي بعد أن استولى الثوار على مبناه وإستوديوهاته، علماً أن الفنان يحافظ على مسافة ساخرة من هذه الصور بمساءلتنا حول المسؤولية التي تقع على الجيل الحالي في إعادة قراءتها وعملية تفسيرها.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى عملية تسجيل الحرب مع العراق التي تشهد على تنوّع مقارباتها. ففي السلسلة الوثائقية بعنوان "حقيقة"، وسلسلة "رواية انتصار" التي تبعتها وبثّها التلفزيون الرسمي بين 1985 و1988، يبتعد مرتضى أفيني (1947 - 1993) عن الأفلام التقليدية التي تصوّرها عادةً وحدات التصوير العسكرية، بتأسيسه لاتصال مباشر وأخوي مع الجنود وتسجيله لشهاداتهم على شكل حلقة من التأثّرات الأولية والسلوك اليومي، يتجلى من خلالها نظرة نقدية تجاه الحرب.

وضمن التوجه ذاته، ينقل عدد من المصوّرين الحرب الدائرة، من أقرب مسافة ممكنة من الجنود والعمليات العسكرية، مثل بهمن جلالي (1944 - 2010) الذي وثّق بصوره التدمير التدريجي لمدينة خرمشهر وحياة الجنود وموتهم، أو جاسم غزبنبور (1963) الذي التقط آلاف الصور على الجبهة ويحضر في المعرض من خلال الكتب المصوّرة التي خصّصها لقصف طهران خلال "حرب المدن" أو لمجزرة حلبجة.

باختصار، يتبيّن لنا في هذا القسم تواري الفن التشكيلي المصبوغ بهواجس شخصية ونزعات ذاتية، خلال الحرب المذكورة، داخل فضاء وزمن مشبّعين أيديولوجياً، عزّزا مفهوم الالتزام لدى الفنانين الإيرانيين بدون أن يفقدهم حسّهم النقدي.

الرهانات المعاصرة (1989 ـ 2014)

لكن بعد انتهاء مرحلة الوحدة التي خلّفتها الثورة والحرب، انطلقت مرحلة جديدة مؤاتية لظهور أعمال فنية أكثر فأكثر متناغمة مع سوق الفن الدولية. وفي هذا السياق، يندرج عمل شُهره فيزدجو (1955 - 1996) الذي يأتي على شكل منتجات صناعية أو جُلود أو مخطوطات قديمة، لا وظيفة لها، تقوم الفنانة بجمعها وترتيبها ضمن تجهيزات يستحيل تصنيفها.

تجهيز لـ شهره فيزدجو


وفي السياق ذاته، يندرج تجهيز نرمين صادق (1955) الدائري الذي استوحته من كتاب "منطق الطير" للشاعر فريد الدين العطار، ويعرض لأنواع مختلفة من الطيور. يدعونا هذا العمل إلى إعادة تأويل عناصر حكاية الطائر الوهمي "سيمرغ"، علماً أن الفنانة تستخدم إحداثيات المنظومة الرمزية لهذه الحكاية لإثارة تأمّلٍ فردي. فالمتلقي لعملها هذا يجد نفسه مضطراً إلى التساؤل حول موقعه بين المنتصرين والخاسرين في هذه الحكاية، بينما تشكّل صورة الطائر انعكاساً للبحث الوجودي الذي تتضمّنه.

من جهتها، تمثّل ميترا فرحاني (1975) أيضاً الجيل الجديد الذي ينمّي اختلافه مع مفاعيل وامتثالية الفن المعاصر. فبعد عمل وثائقي حول إرث الستينات والسبعينات، ها هي تستثمر حقل الرسم ومسرحة الأجساد. لكن بعيداً عن أي نية في خلق مفارقة أو صورة صاعقة، يكشف عملها الرسامي عن قرابة مع التقليد الوثائقي والفوتوغرافي. وفي هذا السياق، تأتي استشهاداتها التحريضية الحاضرة داخل لوحاتها كوسيلة لإيقاظ حس المسؤولية لدينا تجاه الآخر.

وفي مجال التصوير، تشدنا سلسلة صور محسن رستاني (1958) "عائلات إيرانية" التي توثّق لمجتمع ما بعد الحرب من خلال بورتريهات تعكس تنوّع المجموعات التي تكوّنه والتنافر الثقافي الذي يعبره؛ كما تشدّنا صور بهزاد جائز (1975) التي التقطها في الحوزات العلمية في طهران وقم، ونتعرّف فيها إلى حياة والنشاطات اليومية للطلاب الذين ينتمون إلى أجيال وطبقات اجتماعية مختلفة، ومن خلال ذلك إلى بعض أشكال الواقع الديني الإيراني المعاصر.

وبينما يسجّل مزدق أياري (1975) منذ عشر سنوات حميمية عائلته وأقربائه، مشكّلاً بذلك دفتر يوميات مصوّر فريد من نوعه، تركّز تهمينه منصفي (1988) عملها التوثيقي على الوجوه الهامشية ومختلف أنواع الإقصاء الاجتماعي. أما برباد غولشيري (1988) فيحضر في المعرض عبر عمل مثير أراد فيه تكريم الفنانة الراحلة شهره فيزدجو عبر تشييد قبرٍ لها مؤلّف من مواد عملها المفضّلة (الشمع، قشور الجوز...).

يبقى أراش هانايه (1978) الذي يُنجز رسوماً رقمية انطلاقاً من صور فوتوغرافية لطهران يفرّغها من بعض محتوياتها، مسطّراً بذلك تفاصيل دالّة على التحوّلات الاجتماعية والمدينية؛ وخوصرو خورشيدي (1932) الذي يتناول في رسومه العلاقة بين المدينة والذاكرة عبر استعادة صروح ومناخات كانت حاضرة في طهران خلال ثلاثينات القرن الماضي، ولم تعد موجودة اليوم.


__________________________

يستمر المعرض حتى 24 آب/ أغسطس 2014

Musee d'art moderne - 11 avenue du President Wilson - Paris 16
المساهمون