"القدس في المنفى": كمال بُلّاطه مسافراً في مدينته

04 فبراير 2020
(كمال بُلّاطه)
+ الخط -

"القدس في المنفى" عبارة تختصر حياة ومسار الفنان الفلسطيني كمال بُلّاطه وهو عنوان معرضه الذي يتواصل في جامعة كامبردج حتى الثالث عشر من آذار/ مارس المقبل، وأقيم كتتويج للاحتفاء الذي نُظم مؤخراً بصاحب معرض "سُرّة الأرض" في الجامعة البريطانية بمشاركة باحثين ونقّاد ومؤرخي فن بارزين.

وكان اليوم الدراسي، الذي انضوى تحت نفس العنوان واحتضنته كامبردج، معدّاً لاستضافة بُلّاطه (1942-2019)، حيث كان من المفترض أن تكون الأوراق البحثية المقدّمة حواراً مع الفنان المقدسي الذي غادر عالمنا في آب/ أغسطس الماضي بعد أكثر من نصف قرن في المنفى بعيد احتلال مدينته. أما المعرض المرافق لليوم الدراسي، فكان معدّاً ليتزامن مع جديد إصدارات بُلّاطه وهما كتابان باللغة الإنكليزية لربما يعبّران عن خلاصة تجربته فناناً ومفكراً فنياً أضاء جماليات الفن الإسلامي تنظيراً وممارسة. الأول هو "هناك حيث لا تكون أنت" There Where You Are Not (منشورات هيرمر)، ويضم كتابات مختارة لكمال بُلّاطه، قام بتحريرها والتقديم لها، فينبار باري فلود، الناقد والمؤرخ الفني والأستاذ بجامعة نيويورك. أما الكتاب الثاني "شرود بلا انقطاع" Uninterrupted Fugue (منشورات هيرمر)، فهو من تحرير وتقديم بورجو دوراماجِه، المختصة في تاريخ الفن، ويضمّ دراسات وشهادات ومقدمات معارض كتّبها نقاد ومؤرخو فن ومفكرون هم: عبد الكبير الخطيبي، وجيرارد زوريغيرا، وخوسيه ميغيل بويرتا فيلتشيز، وجين فيشر، وميل غودنغ، ودوروثيا شون، وعمر خليف، وبورجو دوراماجِه، وهانز بيلتينغ، وإليزابث كي فودن.

في المعرض يمكن للمشاهد أن يرى جوانب من إنتاج الفنان الفلسطيني البارز: أعمال بتقنية الطباعة على الحرير، ومجموعة من الكتب الفنية التي ابتكرها بُلّاطه لمجموعة من أبرز شعراء العالم العربي الذين جمعته بهم صداقات ومشاريع أدبية وفنية، وهو من تنظيم رفيقة درب كمال بُلّاطه الباحثة لِلي فرهود والقيمة الفنية كلوديا توبين.

أما الجلسات الدراسية، فقدّمها المؤرخ المصري خالد فهمي من "مركز الدراسات الإسلامية" والأكاديمي دونالد كوبر من "كلية يسوع" بجامعة كامبردج، وليتبع ذلك ثلاث جولات من المداخلات البحثية التي تداولت أهمية أعمال بُلّاطه في السياق الفني والفكري والصلات التي صنعها فنه وكتاباته وحضوره في عقد صلات خلاقة أضاءت أصفى ما في الثقافة العربية.

الورقة الافتتاحية كانت للناقدة والمؤرخة الفنية إليزابث كي فودن، الأكاديمية في جامعة كامبردج، ومنظِّمة الفعالية، تحت عنوان "كمال بُلّاطه: فنان بيزنطي وإسلامي وتجريدي".

استعرضت فودن التأثيرات التي أسهمت في تشكيل الشخصية الفنية لبُلّاطه ولا سيما أثر القدس في تكوينه ورؤيته للعالم. وأشارت إلى أن بُلّاطه المقدسي هو ثمرة التعايش في مدينته المسلمة والمسيحية، حيث كان نشأ على منظر قبة الصخرة من بيت طفولته في المدينة القديمة.

وركزت فودن على تأثير الفن البيزنطي الإسلامي في قبّة الصخرة على تطّور أعمال بُلّاطه، والتي شملت الأشكال الهندسية المتناظرة، إضافة إلى جمالية الخط العربي، وهو ما انعكس في اختياره العناوين المسيحية والإسلامية في أعماله، وإن كان قد عالجها من منظور مختلف عن تصويرها التقليدي.

أما كلوديا توبين، الأكاديمية في جامعة كامبردج أيضاً، فقد ركزت في ورقتها "محرك الألوان: محادثات في الكلمة والصورة" على تعاون بُلّاطه في فنّه مع الشعراء في مزج بين الصورة والكلمة. فقد كان بُلّاطه قد صنع لصديقه جون بيرجر عملاً فنياً عام 2007 باسم "أبيات لـ جون بيرجر" أو Verses for John Berger يتلاعب بكلمة Voir الفرنسية (وهي الفعل رأى)، حيث إن بيرجر مشهور بتقديم برنامج "طرق النظر" أو "Ways of Seeing" على شاشة "بي بي سي". يتلاعب العمل الفني بالكلمة الفرنسية ليعطيها عدة معان لتماثل طرق النظر الخاصة ببيرجر.

كما سلّطت الضوء على كتاب "بورتوفوليو غرناطة" وهو تجربة تستكشف التفاعل بين الشعر والصورة من جهة، وتقارب الألوان والهندسة المعمارية من جهة أخرى، إذ إن الكتاب يضم قصائد لأدونيس وأعمالاً لبُلّاطه أنجزها كلاهما مدفوعًا بزيارتهما لقصر الحمراء في غرناطة. وشمل بُلّاطه في عمله إعادة تشكيل للهندسة المعمارية في غرناطة في زوايا الكتاب، الذي ضم أيضاً نصوصاً من الشاعر السوري.

كذلك تطرقت أيضاً إلى عمله "قصيدة الأرض"، المبنية على قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش، والقصيدة في هذا العمل مكتوبة بخط اليد، وتحمل مختلف الألوان تخليداً لذكرى ضحايا يوم الأرض.

وكانت مداخلة فنيشا بورتر، المتخصصة في فن الشرق الأوسط المعاصر في "المتحف البريطاني"، بعنوان "كتب مصنوعة يدوياً لكمال بُلّاطه في المتحف البريطاني". وأشارت بورتر إلى تأثير المدرسة الفرنسية على عمل بُلّاطه في المزج بين الكلمة والصورة، وهي التي بدأت عام 1889 بين أشعار بول فيرلان كما رسمها بيير بونار. أما المساهمة العربية في هذا المجال فكانت في فن الخط والحروفية التي مزجت الفن المعاصر بفن الخط الإسلامي، ولتشير إلى أعمال شفيق عبود كأول من أدخل هذه الطرق الفنية إلى المجال الفني العربي من باريس عام 1947.

وركزت بورتر على محاولة الفنانين تصوير المشاعر التي تسكن قلب القصيدة في أعمالهم الفنية، والذي تجلى في أعمال بُلّاطه بالتعاون مع أصدقائه من الشعراء. وأشارت إلى أن هذا الفن يشهد عودة في الوقت الراهن، كما تشهد عليه مثلاً مساهمة الفنان العراقي ضياء عزاوي في "متحف الفن المعاصر" في نيويورك، والذي قدم عمله "دفاتر" الذي يتناول سنوات الحصار في العراق.

وشهدت الجلسة الثانية تداول السياق العام للفن الإسلامي والعربي المعاصر وتطوّره التاريخي منذ القرن التاسع عشر. وقدم الباحث ريمي لابروس من "جامعة نانتير" الفرنسية مداخلة بعنوان "ضد الهندسة؟ في ماتيس وفنون الإسلام"، بينما شاركت مرسيدس فوليه، الباحثة في "المركز الوطني للبحث العلمي" في باريس، بورقة "عرض مصري مبكر للفن الإسلامي في معرض العالم 1867 في باريس: معارض الدكتور ميمار".

أما الجلسة الثالثة، فشهدت مداخلة للناقد والمؤرخ المعماري ناصر الربّاط، أستاذ كرسي الآغا خان في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، بعنوان "كمال بُلّاطه: من أجل حب القدس". وتناول الربّاط عمل بُلّاطه "اثنا عشر قنديلاً لغرناطة" أو "Twelve Lanterns For Granada" والذي أبدعه بُلّاطه بعد زيارة إلى غرناطة مع صديقه أدونيس. ويرى الربّاط أن "تمثيل العمارة الغرناطية في أعمال كمال لم يكن ينبع من الحسرة على خسارة غرناطة الإسلامية، إنما احتفاء بجمالها. فأعمال بُلّاطه المبنية على الأعمال الفنية التاريخية في القدس أو غرناطة كانت تعبيراً عن الحب والجمال، وعن فهم إنساني للتاريخ العربي. وأشار الربّاط في مقارنة بين بُلّاطه وإيتالو كالفينو إلى فكرة الشوق للمدن المنسية، وأعمالهما المبنية على التخيّل والشوق لمدنهم. إلا أن الفارق بينهما كان في قدرة كالفينو على زيارة مدينته البندقية، بينما كان بُلّاطه محروماً حتى رحيله من زيارة مسقط رأسه القدس".

وقال الرباط لـ"العربي الجديد": "بالنسبة إلى كمال، كانت القدس صليباً غير مرئي حمله في قلبه ويمكن رؤية صداه كآلام حنينٍ تخترق جميع أعماله الفنية. ولكن بخلاف أعمال فنانين فلسطينيين آخرين، فإن توق كمال يطفو في فنّه، والذي يمرّ عبر طبقات واسعة من تشكيله الفكري، من قراءاته في الفلسفة والدين والتصوف، وإعجابه العميق بالتقاليد الأدبية الإنسانية لأوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر".

وشاركت الباحثة بورجو دوراماجِه من جامعة "لودفيغ ماكسمليان" في ميونخ بورقة "فنانون منفيّون من العالم العربي" ناقشت فيها تجربة بُلّاطه من زاوية المنفى، وذلك مقارنة بفنانين آخرين من العالم العربي عاشوا تجاربهم الفنية من المنافي الأوروبية. واختتمت الأوراق بمشاركة الناقد فينبار باري فلود من جامعة نيويورك، والتي تحمل عنوان "كمال بُلّاطه وعلم جمال الإنسانية الراديكالي".

كما في انتصاره أثناء حياته لقيم التحرّر والعروبة الثقافية وجماليات الفن الإسلامي وممكناته، يقدّم كمال بُلّاطه في هذا المعرض، وفي الكتابين الجديدين وما مثلته احتفالية كامبردج بفنّه أصفى منطقةٍ للقاء بين الشرق والغرب، وأكثرها نديةً ويشكل فنّه شاهداً على عروبة مدينته القدس المتجذّرة، تجذّرٌ يسخر من كل "الصفقات" الاستعمارية المراد فرضها عبثاً اليوم.

المساهمون