عراقٌ كان يسوسه الشعر

16 أكتوبر 2014
الجواهري مع صدّام حسين قبل الخروج إلى المنفى
+ الخط -

ثمة اشتباكٌ واضحٌ بين الشعراء والسياسة في العراق، ربما لأن العراقيين شعب سياسي بالفطرة، كما يقال، أو لأن أوزار السياسة دخلت في تفاصيل حياتهم وخالطت منهم الدم والعظم، ففاضت القصائد.

ولعل معروف الرصافي وجميل الزهاوي أشهر من خاض بحور السياسة بأدوات اللغة في العهد الملكي، ولهما في ذلك صولات وجولات ألّبت عليهما الخصوم من أهل السياسة والأدب على حد سواء. ولا يزال أبناء اليوم يرددون قول الرصافي في ذم ساسة ذلك الزمان ويسقطونه على واقعهم: "علم ودستور ومجلس أمة/ كلّ عن المعنى الصحيح محرّف".

وكان لكل شاعر في ذلك الزمن جمهور ومحبون يتعصّبون له، ويشكّلون ما يشبه الأحزاب الأدبية. وكثيراً ما كانت تنشب بينهم صراعات وهجاءات متبادلة على صفحات الجرائد.

ثم جاءت الجمهورية ومرحلة المدّ القومي والاشتراكي، واشتعلت بغداد بصراع الأيديولوجيات، التي كان من نتاجاتها تجارب بدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ومحمد مهدي الجواهري وشفيق الكمالي وشاذل طاقة وسواهم. وكان كلّ واحدٍ من هؤلاء محسوباً على تيارٍ سياسي ينطق باسمه شعراً، ويعادي خصومه بقصائد لاذعة أحياناً.

وكم دفع بعضهم أثماناً باهظة نتيجة تمرّدهم على السلطة، بل وعلى أحزابهم كذلك، كالسيّاب الذي كان يسارياً، وحين انقلب على الحزب الشيوعي، حورب من بعض الأوساط الأدبية المحسوبة على اليسار آنذاك. وكذلك الحال مع شفيق الكمالي، الشاعر البعثي ومؤلف النشيد الوطني السابق للبلاد، الذي راح ضحية صراعات رفاقه على السلطة. أما الجواهري فقضى عمره شريداً ومات خارج حدود وطنه لمعارضته نظام الحكم السابق.

غير أن أبرز تجلٍّ لهذه الظاهرة كان أحمد مطر، الذي تفرّد بشعر الهجاء السياسي الخطابي، حين وجّه سهام نقده إلى الحاكم وبطانته الفاسدة بأسلوبٍ ساخرٍ، تمرّد فيه حتى على القوالب القديمة لشعر الهجاء وأجاد سبك الكثير من المصطلحات العامية والحديثة في قوالب فصيحة، بطريقة تلائم القارئ العادي حسبت له. ولسنوات انتشر شعره محلياً وعربياً، قبل ظهور الإنترنت والانفتاح على عوالم كتابية جديدة، في وقت كان يعدّ اقتناء دواوينه ودوواين غيره من الشعراء السياسيين جريمةً في بعض الدول.

وعبر محطات ترحاله بين البصرة والكويت ولندن، استطاع مطر أن يؤسّس ما يشبه المدرسة في "الأدب السياسي" فنسج على منواله كثير من المتحمسين للتغيير، وأصبح مصدر إلهام لمعارضي الأنظمة العربية. وتكاد قصيدته في رثاء ناجي العلي تمثّل تكثيفاً لجميع قصائده السابقة، كما يرى بعض النقاد.

غير أن غيابه المفاجىء عن الساحة، رغم الأحداث الجسام التي تبعت غزو العراق في 2003، عرّضه لكثير من الاتهامات بالتناقض وخيانة قضيته كشاعر، وهو ما حصل مع نظيره مظفّر النواب الذي قضى عمره في هجاء الأنظمة السياسية في العالم العربي، لكن صوته لم يسمع حول ما جرى من أحداث في بلاده خلال السنوات الفائتة.

وكدليل على حيوية الشعر في الحياة السياسية العراقية، أصبح لكل حزب شاعر يتحلّق حوله مريدو ذلك الحزب، باعتباره ممثلاً لتوجهاتهم ومبشّرا بأفكارهم؛ ربما سيراً على التقليد العكاظي الشهير: "الشاعر الناطق باسم القبيلة". فالجواهري مثلاً يتغنّى باسمه اليساريون وإن لم ينتم إليهم، أما البعثيون فإن شاعرهم المفضل هو عبد الرزاق عبد الواحد، في حين يعتز الإخوان المسلمون بشاعرهم وليد الأعظمي، وأحزاب التشيّع السياسي بالشاعر مصطفى جمال الدين.

ويبدو أن الوجدان العراقي المولع بالشعر، والمثخن بجراحات الحروب قد استثنى اليوم الشعراء من أحكام المحبة والكراهية، وأصبح الذوق الأدبي معياراً لقبولهم هم وشعرهم، بعد تجارب مريرة مع السياسة وأزماتها. ربما هو تسامح تفتقر إليه قوانين الصراع في هذا البلد.

دلالات
المساهمون