فإضافة إلى مساره في الجندية، ومشاركاته في عدد من الحروب التي خاضتها فرنسا في عدد من مناطق العالم، كان أهمها على الإطلاق مشاركته في الحرب العالمية الثانية، وتسريحه من الجيش لأسباب صحية، فإن عمله كضابط في البحرية الفرنسية، قد مكنه من الترحال في عدد من مناطق العالم، من الهند إلى اليابان إلى إيسلندا والمغرب العربي وتركيا، مرورا بمصر وفلسطين واليونان، وانتهاء بالشرق الأقصى، انطلاقا من بلاد فارس.
أعماله الأدبية الغزيرة ورواياته ومشاهداته ورحلاته، كانت تغرف من هذا الغنى الحياتي الذي تمتع به، كما عذوبة كتاباته مكنته من المكانة الأدبية الرفيعة التي أدخلته إلى الأكاديمية الفرنسية، وقد أصبح عضوا خالداً فيها منذ 1891 إلى غاية وفاته في 1923.
من المثير حقا، ملاحظة الولع الخاص لبيير لوتي بالشرق عموما، والعالم العربي على وجه الخصوص. فقد تيسر له أن يقوم برحلات كثيرة إلى المغرب العربي، وإلى مصر، ومنها إلى فلسطين ، ثم اليونان وتركيا وفارس والشرق الأقصى.
وبقدر الإعجاب الذي كان يكنه لمصر ولنيلها العظيم الذي أبحر فيه، فإنه احتفظ بعلاقة خاصة مع إسطنبول التي أثرت فيه إلى حد كبير. أحب المدينة ودافع عنها من الهجمات الأوروبية التي كانت تتكالب في تلك المرحلة التاريخية من الإمبراطورية العثمانية وتسعى للنيل من كعكة "الرجل المريض".
كان يعتبر هذا التدخل الأوروبي لا شرعيا، ولا أخلاقيا، حتى وإن كان يجري تحت مسميات كثيرة براقة، لكنه في حقيقة الأمر لم يكن إلا محاولة طويلة للاستحواذ على مقدرات الشعوب العربية والإسلامية، والدفع في اتجاه إخضاعها بقوة السلاح، وهذا ما تم بالفعل.
إسطنبول، كانت بالنسبة له، حكاية حب، هناك التقى بالقوقازية الجميلة، التي تنتمي إلى حريم البلاط التركي، وهناك سيسقط في حبها، ليعيش علاقة عشق توجها في روايته "أزياد". زار لوتي إسطنبول عدة مرات، أولا في عام 1876 كضابط على متن سفينة فرنسية. تأثر لوتي بشدة بأسلوب الحياة العثمانية وهذا انعكس في رواياته. هناك سيلتقي المرأة التي من المفترض أنها ألهمت رواية "أزياد". عاش في إسطنبول خلال فترة وجوده في تركيا. كان دائما يعتبر نفسه كصديق للأتراك.
في عام 1913، سيصدر كتابه المنافح عن تركيا، بعنوان "تركيا المعذبة"، انتقد المواقف الغربية تجاه الإمبراطورية العثمانية. في نفس العام ذهب إلى تركيا كضيف للدولة واستقبل بحفاوة من طرف السلطان في قصره. خلال حروب البلقان، والحرب العالمية الأولى وبعد ذلك، كان صوته عاليا مع الأتراك وضد أوروبا في احتلال الأناضول، من خلال دعمه للمقاومة في الأناضول وانتقاده لبلده فرنسا. وقد تمت تسميته نتيجة لذلك، كمواطن فخري لمدينة إسطنبول في عام 1920، وأطلق اسمه على حي في المدينة القديمة.
في مارس/آذار 1894، سيصل الكاتب إلى القدس، وقد تحدث عن هذه الرحلة في كتابه "القدس". كان لوتي نجما في سماء الأدب الفرنسي، وأحد أكثر الكتاب غزارة وإنتاجا. حيث كان يصدر كتابا أو كتابين كل سنة، بالإضافة إلى تشعب القضايا والاهتمامات التي يبحث فيها، وموسوعيته التي لا تضاهى.
لا شك أن الكثير من المشاعر الصاخبة كانت تتناهبه، فهذه الرحلة ليست مثل سابقاتها، وبالتالي، لا بد أن نسجل أن ولعه هذا لم يخمد، حتى وإن كانت رحلته إلى الأراضي المقدسة لم تكن في مستوى طموحه، وقد خلد ذلك في كتابين عن فلسطين، هما "الجليل" و"القدس"، وجمعت في مجلد واحد بعد ذلك.
لغة رشيقة
تتميز لغة بيير لوتي بخفتها ورشاقتها وبدقة الوصف والقدرة على الحشد المشهدي التي اكتسبها من مراسه الطويل ومن موهبته الكبيرة وتنوعه الثقافي والمعرفي وخبراته الحياتية. وكل هذا يبدو واضحا في رحلته إلى "القدس". لقد أراد أن يغوص في ما وراء المآثر المقدسة والجدران العتيقة والبنايات التي تكتسب رمزيتها من الكثافة الدينية، كما استطاع أن ينظر بعين المتسائل إلى الطرقات والوجوه والبشر القادمين من الجهات الأربع كي يحجوا ويتبركوا، رجالا ونساء، ومن مختلف الأعمار، كأنما هذا "الحج"، هو آخر شيء يفعلونه في هذه الدنيا الفانية قبل أن يودعوا إلى العالم الآخر.
لكن رحلته التي دونها في كتاب "القدس"، سوف تجلب له الكثير من المتاعب والاتهامات، ولعل المصدر الأول لهذه الاتهامات، هو النقص المعرفي الشديد، والطعن في المعطيات التي أوردها، والتي لا تستند إلى أسس تاريخية سليمة، وهذا يعني حسب منتقديه، أنه لم يوفر لنفسه الوقت ولا الجهد، لكي يدقق في المعطيات التي أوردها، ويتحرى دقتها.
والاتهام الآخر، يتعلق بالطريقة التي يعرض فيها إلى اليهود في القدس، وكيف يصف شعائرهم في حائط المبكى. ووصل هذا الاتهام إلى حدود رميه بمعاداة اليهود والتعرض لهم والتعريض بهم.
غير أنه ورغم كل ذلك، لا يمكن إلا الافتتان بقدراته التعبيرية والتمعن مليا في اللوحات التي ينقلها حية إلى القارئ، وكأنه صنوه في مغامرة رحلته تلك.
يكتب "ذهبنا إلى الحرم الشريف عبر طريق ضيقة عابسة على الرغم من وجود الشمس، كانت الجدران القديمة خالية من النوافذ، مصنوعة من بقايا تعود إلى كل عصور التاريخ، وفيها تندمج هنا وهناك، حجرات عبرانية ومرمر روماني. وكنا كلما تقدمنا تحول كل شيء إلى خرائب أكثر خواء وأكثر جمودا، حتى وصلنا إلى ذلك الحي المقدس المحفوف بالحزن اللامتناهي، والمشتمل على المسجد الذي كانت جميع منافذه تحت مراقبة الحراس الأتراك الذين يمنعون المرور منها".
في المسجد الأقصى
لا يجد بيير لوتي اللغة المناسبة كي يصف بها دخوله إلى باحة المسجد الأقصى، ثم وهو يعبر إلى داخل الأفنية. فالهندسة والأرابيسك العربي الإسلامي يفتنانه، واللون الأخضر، جعل لغته كذلك تتلألأ مثل كريستال في مهاب الضوء وهيبته، الضوء القديم المقدس، الذي يتساقط منذ أزمنة على المكان ويعطيه المعنى الروحي الأسمى.
نقرأ هنا قدرا من هذه الدهشة في هذا الوصف "استطعنا بفضل أحد الانكشاريين اجتياز هذا النطاق المتزمت، عند ذاك وصلنا بعد أن عبرنا سلسلة الأبواب المتداعية إلى ساحة شاسعة أشبه بصحراء كئيبة، حيث كان العشب ينمو بين البلاط، وفي الوسط وبعيدا جدا جدا عنا نحن الذين وصلنا من إحدى زوايا هذه الساحة الواسعة، ينتصب وحيدا صرح مدهش أزرق برمته، وهذه الزرقة هي زرقة رائعة نادرة، ويبدو كأنه أحد القصور القديمة المسحورة المكسوة بالتركواز، إنه مسجد عمر، فيالها من عزلة فخمة عاتية، هذه التي استطاع العرب إبقاءها حول مسجدهم الأزرق.
على درب الآلام
يحاول لوتي الاقتراب أكثر من الأماكن المقدسة، إنها توحي له بأشياء كثيرة، تتجاوز الرمزيات الدينية إلى أفق إنساني أوسع يسائل ويطرح السؤال.
يرمي لوتي خطوه حذراً في درب الآلام، يقول "إن هذه الطريق التي نبجلها في أيامنا هذه، والمعترف بها منذ القرن السادس عشر فقط هي خيالية في تفاصيلها، بيد أنها واقعية بلا ريب في اتجاهها وفي خطوطها الواسعة، لا شيء في هذا الحي سوى الخرائب التي تحيط بقصر بيلاطس. لقد تغيرت الأشياء على نحو أقل مما حصل في المناطق الأبعد عند مشارف الصلب، فالطريق الروماني المبلط القديم موجود ربما على بعد أقدام تحت الأرض المرتفعة اليوم. وإن بعضا من هذه الأسوار القديمة مطمورة أكثر مما كانت عليه في السابق، لكنها ما زالت تقف على الأماكن ذاتها، فقدت شهدت ربما مرور المسيح وهو يحمل صليبه".
ولا ينفك لوتي يرسم تلك الصور القاتمة، وهي ربما آتية من نفسية صاحبها، فرحلته إلى القدس والجليل، تعتبر من الرحلات التي تركت في نفسه أثرا سيئاً، ربما يعود ذلك إلى أن سقف توقعاته كان أعلى.
يكتب "كانت الطريق هذا المساء مهجورة ومظلمة في نهاياتها، مع قليل من الضياء الذهبي المحتضر، وفي الأعلى منها ذروة أحجارها الحمر توشك الشمس المنخفضة على الانطفاء. سمعنا صوت الأرغن والأناشيد الدينية، وهي ما زالت تنبعث من كنيسة الآباء من سانت آن، بعدما أغلق الآباء أبوابهم".
كنيسة العذراء.. مغارة وبخور
على المنوال نفسه يمضي بيير لوتي في بسط مشاهداته، وهذه المرة في كنيسة ضريح العذراء، يكتب "ما إن دخلنا إلى الكنيسة حتى فاجأتنا الظلمة، وعبقت رائحة العفونة حادة، رائحة المغارة المختلطة برائحة البخور. كانت هناك أسمال معلقة، وأسرّة حقيرة مفككة يستخدمها حراس المكان المليء بالفضة والذهب، وكان أمامنا سلم أثري يغوص في الأرض تحت ما يشبه جناح الكنيسة، مائلا هو الآخر، وينحدر بسرعة مثل السلم نحو الأعماق المظلمة.
إن هذا الشِعب المائل ذا التقوسات القوطية البدائية الثقيلة هو من صنع الصليبيين الذين أزالوا الأنقاض من الكنيسة البيزنطية التي كانت قد تحولت ذلك الوقت إلى مسجد، وكادت الكنيسة تقوض حتى منتصفها، وكان بالإمكان أن نقرأ فوق الأحجار الرئيسية لما تبقى منها إشارات إلى العمال الفرنجة في القرن الثالث عشر. وعندما لحظنا تلف درجات السلم والتماع اللون الأسود على الحيطان، أدركنا في الحال قِدم ما نرى.
نزلنا وكان ما رأيناه في الأسفل يشبه المغارة أكثر مما يشبه الكنيسة، فقد كانت تهبط من السقف رواسب حجرية رائعة، وهناك المئات من مصابيح الفضة والذهب معلقة كالأكاليل أو المسابح. لم يكن القبو منتظما، بل مضطربا، فهو يشتعل على زوايا مبهمة، وكانت أماكن الصلاة في المغارات الخمس أو الست تحاول كل منها الانعزال عن الأخرى، حتى أننا وجدنا هناك في زاوية قرب الضريح وسط العديد من الرموز الدينية المسيحية ما يشبه المسجد للمحمديين الذين، كما نعلم، يكنون تبجيلا خاصا للعذراء أم النبي عيسى.
ففي هذا المكان وجدنا تعارضاً أكبر مما رأيناه في القبر المقدس بين أبهة الحلي القديمة المتراكمة في كل مكان وبين التلف الناجم عن تقادم السنين والتداعي والهيئة البالية المحتضرة للأقواس نصف المهدمة، والأحجار غير المصقولة والبناء البدائي، وقطع الصخور السردابية، إذ كان كل هذا مغطى بالدخان وبلون مائل للسواد ينضح بالرطوبة عبر بيوت العناكب والغبار.
كان الجو مظلماً هناك، كما لو كنا في مدفن للموتى، كانت ثمة أروقة معتمة منذ قرون، وبداية السلالم تؤدي في الماضي إلى أماكن لا علم لأحد بها، وتؤدي حاليا إلى باطن الأرض، وهنالك أضرحة أخرى أيضاً يبدو أنها تعود إلى سان جويف، وسانت آن وإلى ذوي العذراء، وهنالك أيضا صهريج للمياه يحتوي على ماء عرف بمعجزاته، وهناك وهناك، ترى قماش بروكار قديما مسمرا على الصخور، يتدلى مثل الخرق، أو مطرزات شرقية قديمة ملقاة على الأسوار متكسرة ومتحللة.
وكانت الشموع والبخور تطلق دخانها هنا بلا توقف في الجو المأتمي الخانق لهذا المكان، وتحت هذا النوع من الفضة والذهب الذي هو عبارة عن مجموعة من المصابيح والثريات المقوسة وفق جميع الطرز ومن جميع الأزمنة المقدسة.
وبينما كنا نصعد من ظلام القاع عبر السلم العريض الأسود الذي أقامه الصليبيون، جاءنا من الخارج صوت غناء وقور بهي، إنه غناء جماعي ينشده رجال بأعلى أصواتهم وهم يسيرون. إنها مراسيم دفن الأرشمندريت، وكانت الحشود تنتظره فظهر لنا عرضا عند خروجنا من الكنيسة التحت أرضية، وفي الضياء الذي ظهر علينا من جديد فجأة".