العالية ماء العينين..عن التبراع وقصائد المرأة الأخرى

04 يوليو 2019
("تخطيطات موريتانية" لـ إيزابيل فياديرو)
+ الخط -

لم يغادر الشعر على لسان المرأة في التراث العربي منطقة الهامش، ورغم الشهادات التي نالتها من بعض الشعراء، مثل تقريظ الفرزدق لشعرية الخنساء، إلا أن ذلك لم يتجاوز نوعاً من التعويض عن عدم التفات المدونة النقدية وكتب التراجم كثيراً لشعر المرأة.

هكذا، يبدو الاحتفاء بأشعار النساء رمزياً لعوامل عديدة، فالبنية الأبوية في معظم المجتمعات في تلك المرحلة، ومنها العربية، ربطت القصيدة بالسلطة التي يحتكرها الرجل - وكذلك احتكر معارضتها -، كما عبّرت أغراضها في المديح والهجاء والرثاء وغيرها عن نمط تفكيرٍ وسلوك تمثّله إلى حد بعيد.

منذ 2000، بدأت الباحثة المغربية العالية ماء العينين تأمُّل ما نظمته النساء في جنوب المغرب وموريتانيا ضمن الثقافة الحسّانية، نظراً إلى أنّ ثيمته هي التغزل بالرجل، ما سبّب إقصاءه عن الاتجاهات الأساسية للأدب وجعله في هامش الهامش. وفي كتابها "التًّبْراع، نساء على أجنحة الشعر: دراسة في الشعر النسائي الحسّاني"، الذي صدر حديثاً عن "فضاءات للنشر والتوزيع"، تُقدّم قراءةً ضمن مسارَين: ما هو فني وموضوعي من جهة، ودلالاته النفسية والاجتماعية من جهة أخرى.

تعود المؤلّفة إلى أولى محاولات التعريف بهذا الشعر في مرحلة سابقة وتحديداً عام 1970، على يد الباحث الموريتاني أحمد باب مسكة في كتابه "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط"، لكن تعريفه لم يزد عن صفحتين، قبل أن يبدأ اهتمام عدد من الباحثين الفرنسيّين، ومنهم كاترين تين الشيخ وآلين توزان، باعتباره جزءاً من التعبيرات النسائية.

هذا الاهتمام العلمي سيثير اهتمام الباحثين من أبناء "فضاء الثقافة الحسانية"، بحسب ماء العينين، لتبرز منذ التسعينيات عدّة دراسات أكاديمية أضاءت على نحوّ مفصّل شعر التبراع، إلّا أنها افتقدت إلى ضبط وتحقيق مادته الشعرية، ولم تنشرها مستقلّة خارج إطار الدرس والاستشهاد بها.

دفعت هذه السياقات الباحثة إلى تقصّي العديد من النماذج، وتوثيق ما هو مفيد للدراسة والبحث في أطروحة الدكتوراه التي وضعتها سنة 2009، ولها دلالتها من حيث تشبّعها بالذات الفردية والجماعية والفكرية، للمجال واللحظة التي أسهمت في إنتاجها.

في القسم الأول من الكتاب، "المرأة والشعر"، تستحضر ماء العينين نموذجَين للمقارنة؛ هما "الرباعيّات الفاسيّة" أو ما يُعرف بـ"العروبيّات"، وهي أشعار نسائية في مدينة فاس المغربية، وارتبط موضوعها بأحاسيس ووجدان النساء، وانزاحت بعض نماذجها إلى مناجاة الله طلباً للستر والتأمّل والحكمة، وشعر "اللاندي" الذي تنظمه نساء البشتون الأفغانيات ضمن قصائد قصيرة جداً تحكمها نزعة إيروتيكية للبوح بمشاعر العشق والخروج على تقاليد المجتمع.

تستعرض المؤلّفة أشكالاً عديدة من الشعر الحسّاني المسمى "لَغْنَى" شاركت النساء في قولها، ومنه التبراع الذي تختلف الروايات في جذره بين "برع" أي أتمّ في كل فضيلة وجمال، أو "تبرّع" بمعنى أعطى من غير سؤال أو تفضَّل بما لا يجب عليه، معدّدة تعريفات في مجمل الدراسات التي تناولته، وموضّحةً أن كل "تربيعة" تكون على وحدتين تؤلّفان سطراً واحداً.

وتفصّل ماء العينين الخصائص الشكلية والإيقاعية للتبراع من حيث بنيته العروضية وأوزانه ومعجمه اللغوي المستمد من اللهجة الحسانية، الأقرب إلى اللغة الفصحى بحسب باحثين كثر، والصورة الشعرية كأساس في صناعته، والدلالات النفسية والاجتماعية المرتبطة بتأليفه؛ حيث تبرز المرأة الأخرى أو الجزء المحكوم بالتخفّي منها، وكيفية تشكّل صورة الآخر/ الرجل في نصوصها، والتي تحظى باهتمام واسع في الكتاب.

يخلص الكتاب إلى أن التبراع يمثّل صورة رومانسية وأحاسيس يغلب عليها طابع المعاناة والألم، في إطار أقرب إلى الغزل العذري في التراث العربي القديم، مع وجود نماذج تبحث أو تتطلّع إلى شكل واقعي ومحدّد للعلاقة مع الآخر، مضمّنة في القسم الثالث، "مدونة التبراع"، قصائد مرتّبة هجائياً بحسب قوافي أبياتها.

المساهمون