مفكرة المترجم: مع دانيال صالح

21 نوفمبر 2018
(دانيال صالح)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. هنا استضافة للمترجمة اللبنانية دانيال صالح.


■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
اخترتُ الترجمة منذ البداية، وكان هدفي ترجمة الأدب والشعر. لطالما كانت الكلمات هاجساً وهوساً بالنسبة إليّ، وكنت أود لو أقضي حياتي بكاملها محاطة بها. تبدو لي الحياة في الكتب وعلى الورق أكثر أماناً. ربما كان ذلك رومنسياً بعض الشيء في شبابي، لكنه كان المنطلق، على أن تأخذنا الحياة لاحقاً إلى أماكن أخرى. بقيت الترجمة في حياتي شغفاً.


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجمين الآن؟
آخر ما ترجمته كان سلسلة أعمال كلاسيكية من الأدب الفرنسي، ختمتها بست روايات لصاحب نوبل للآداب 2014، باتريك موديانو. كان ذلك من أجمل رحلات حياتي، إضافة إلى ترجمة نصوص شاعر فرنسي من القرن السادس عشر. كما ترجمتُ روايتين ممتعتين لشريف مجدلاني. حالياً أنا في استراحة، لأن وتيرة ترجماتي في السنوات الأخيرة كانت مرهقة، وصار رأسي يضج باستمرار بالكلمات. لا بد من إفراغه قليلاً.


■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
هناك عقبتان برأيي: الجهل والاستسهال. الجهل للمادة التي تُترجَم وللأدب عموماً، سواء لدى بعض الناشرين أو بعض المترجمين، والاستسهال الذي يجعل أياً كان يفعل أيّ شيء كان وهو واثق من نفسه. وهذا يُغرق المكتبات ودور النشر بالكتب التي لم يبق منها شيءٌ بعد نقلها من لغتها الأصل. يحدث ذلك من غير أن يأبه أحد. كيف يمكن بعد ذلك تخصيص المجهود والوقت لترجمة وفية ولأسلوب يعكس رهافة النص الأصلي.


■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
عملت كثيراً بدون محرّرين، أفضّل هذا بالتأكيد على العمل مع محرّر سيّئ. لكن حين يكون هناك محرّر تثق به، تكون القراءة الثانية مفيدة، لأنها تُقبل على النص من زاوية مختلفة، خارجيّة، في حين أنّ المترجم بات ملتصقاً بالنص، عاجزاً عن أخذ مسافة. لكن ينبغي في المقابل الحفاظ على أسلوب المترجم والوثوق به، فهو من ولج الكتاب وجال فيه وفكّكه وأعاد تركيبه، وبات يعرف خفاياه. وهنا تكون أحياناً معركة بين هذا الطرف وذاك. إنه توازن دقيق وصعب. الكابوس أن تعمل مع محرّر لا توافقه الرأي أو تعتبر أحياناً (وهذا يحصل) أنه لم يدرك تماماً أسلوب الكاتب وعالمه. إن كانت مهارته تقتصر على اللغة والقواعد، فعليه أن يتركك تتصرّف في الأسلوب.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
هناك عناوين كثيرة كنت أودّ أن أترجمها، لكنني لم أجد ناشراً لها، وأحياناً بسبب الجهل. لا يمكن التحدّث عن "الناشر" بشكل عام، فالفرق بين هؤلاء شاسع، ثمة ناشرون هم مجرد تجار بدون ثقافة، وآخرون مولعون بعملهم وشديدو الاطّلاع. من حسن حظّي أن آخر من تعاملت معهما كانا كاظم جهاد، ودار "هاشيت أنطوان" (نوفل) في بيروت، والعمل معهما ممتع وحضاري، يقترحان عليّ دائماً كتباً مهمّة وجميلة ويخيّرونني ما بين مجموعة من العناوين، وهذا نادر. كثيراً ما عُرضت عليّ من قبل كتب عديمة الأهمية.


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمينها، وإلى أي درجة تتوقفين عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
صحيح أن الترجمة مهنة يجب تعاطيها على هذا الأساس، لكنّني عاجزة في كل شيء عن تحكيم عقلي فقط. شخصياً، في تعاملي مع هذا النوع من الكتب، وتحديداً كتب الرأي وليس الكتب التقريرية، آخذ بالتأكيد بالاعتبارات السياسية، وتكون مواقف الكاتب حتماً حاسمة في قبولي الترجمة أو رفضها، وسبق أن رفضت. لا يمكنني، وهذا نهج شخصي للغاية لا أعمّمه، العمل على كتاب لمجرّد أنّني وقّعت عقداً وسأتقاضى مالاً عليه، من غير أن أشعر أنني معنيّة به. لا بدّ لي من الالتزام بالكتاب والدفاع عنه إذا اقتضى الأمر دفاعاً مستميتاً. كيف أفعل ذلك إن كنت بالأساس أرفض طروحاته؟ هذه قناعتي في الأدب، كما في السياسة. لا مساومة في الكتابة، سواء في التأليف أو في الترجمة.


■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجمين له؟
علاقة صعبة. ليس مع الكاتب فقط، بل مع الشخصيات. الترجمة تصنع حميمية كبيرة مع المؤلّف وتجربته وأفكاره ومشاعره، وتعاطفاً كبيراً مع شخصياته، حتى البغيضة منها. إنه عالم مواز يعيش فيه المترجم لشهور، وحين تنتهي الترجمة، أجد نفسي منبوذة خارج هذا العالم وأشتاق إلى شخصياته وإلى حضور الكاتب الطاغي. العمل على موديانو مثلاً كان تجربة فريدة، تبعته على مدى ست روايات في شوارع باريس التي جال فيها طوال حياته، كنت ظلّاً له وأحببته إلى أقصى حدّ. وددت لو أعيش في حياته. كان الخروج من عالمه صعباً فعلاً. أحسست بكثير من الفراغ والحنين في الفترة الأولى.


■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
حين أترجم، أحرص على البقاء دائماً في ظل الكاتب. لا بدّ من الفصل بين الترجمة والكتابة. وعلى المترجم أن يتحلّى بهذا التواضع. لكن في المقابل، يتميّز الكاتب بجرأة ومخيّلة ومرونة في الكتابة لا يتحلّى بها سواه. الترجمة الأدبية أقرب ما يكون إلى الكتابة الأدبية، وتعطي الكاتب-المترجم فضاء من الحرية. ثمة أساليب كثيرة في الترجمة، شخصياً أعتمد كثيراً على حدسي وعلى وقع الكلمات عليّ، فأرتّبها كما أشعر بها. العلاقة مع اللغة والكتابة أمر رائع، معظم الناس لا يفكرون حتى في الكلام، يستخدمونه كمن يتنفس الهواء، لكن الواقع أن له حياة بمعزل عنا. الكلمة طاقة وهذا يسحرني.


■ كيف تنظرين إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
أمر ممتاز أن يشعر المترجم أن عمله يلقى تقديراً، فهو كثيراً ما لا يراه أحد. ظلّ حتى الآونة الأخيرة ولا يزال يُعتبر شخصاً ثانوياً، وظلت الترجمة حتّى الآونة الأخيرة تعتبر عملاً غير مهم بإمكان كلّ من يعرف لغتين ولو بطريقة سطحيّة القيام به. لكن تركيبتي النفسية ترفض الدخول في لعبة المنافسات، أفضّل البقاء معزولة وهادئة والتفرّغ لنفسي ولما أحبه.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسيرين وفقها كمترجمة، وهل لك عادات معيّنة في الترجمة؟
أحب أن أتشبّع من الكتاب الذي سأترجمه، أجري أبحاثاً عن الكاتب، حتى إن كنت أعرفه وقرأته من قبل، فالترجمة ليست القراءة. أتعرّف على حياته وعالمه وأقرأ أو أشاهد مقابلات معه، مثل ممثل يحضّر نفسه لتقمّص شخصية. وحين أبدأ الكتاب، يملأ نفسي ووقتي، وعلى مرّ الصفحات، يصبح مثل هاجس، يواصل حياته في خلفيّة رأسي ولا أخرج منه حتّى حين أنصرف إلى أمر آخر. هذا مهمّ جدّاً لأنّني حين أبدأ الترجمة، ينبغي أن تنساب منّي بصورة شبه عفويّة، أن تتبادر إليّ الكلمة أو العبارة أو تركيبة الجملة التي ترضيني وتشبعني بشكل بديهيّ. أحب أن أكتب بحدسي وليس بعقلي. أترجم بشغف. وهذا ما أبحث عنه.


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
لا أندم على شيء ترجمته، فما قمت به قمت به، وإن لم تكن التجربة موفقة، فقد انتهت وطويت الصفحة. لكن الكتاب الذي لم "أهضمه"، وأقول ذلك بعد مرور أكثر من عشرين عاماً (يعني لم أهضمه إطلاقاً)، كان رواية لسيمون دو بوفوار، رواية لم تعن لي شيئاً، كرهتها وكرهت نفسي وكرهت سيمون دو بوفوار، وكدت أكره سارتر معها. كانت رواية بنتها الكاتبة على مجرّد فكرة أرادت أن تثبتها (لسارتر على ما أعتقد)، بدون أن يأخذك النصّ إلى أيّ مكان أو يجعلك تنسى أنك جالس خلف طاولتك أو في صالون منزلك، أو أن وقت العشاء حان. كتاب عديم الإلهام.


■ ما الذي تتمنّينه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجمة؟
ما أتمنّاه هو المزيد من الجدية والاحترام والاعتراف. يجب التوقّف عن إصدار كميات من الكتب سيّئة الترجمة، لمجرّد أن الناشر يتعامل مع أيّ كان من غير أن يكترث للأخطاء والمغالطات والركاكة، بشرط أن يحدّ من نفقاته. ولمجرّد أن المترجم يريد الانتهاء من الكتاب بأسرع ما يمكن للانتقال إلى التالي. أطّلع على الكثير من الكتب المترجمة الرديئة فعلاً، إلى حد أنني أتساءل إن كان أحد قرأها قبل نشرها، إن كان المترجم نفسه أعاد قراءتها أو حتى فهم ما كتب. هذا فيه إجحاف للذين يعملون بكدّ ويكرّسون وقتهم وجهدهم وطاقتهم لإعطاء ترجمة تنصف الكتاب. الترجمة عمل رائع وصعب، ويجدر بالتالي ألّا نحطّ منها.


بطاقة
إضافة إلى الترجمة، تكتب دانيال صالح (1962) الشعر بالفرنسية، وقد صدرت لها مجموعتان شعريّتان: "أحجار الليل" Pierres de nuit (باريس، 1984) و"الخطوات النائمة" Les pas endormis (بيروت، 1985). ومن إصداراتها في الترجمة: "قصص وحكايات" لـ إميل زولا، و"من أقاصي النسيان" و"دفتر العائلة" و"حادث ليليّ" لـ باتريك موديانو، كما ساهمت في أنطولوجيا مترجمة إلى الفرنسية لأعمال الشاعر أنسي الحاج.

المساهمون