عبد الغني النابلسي.. خمس رحلات إلى لمصر والشام والحجاز

07 مارس 2020
منظر عام لبيت لحم، 1753 (Getty)
+ الخط -

يعد الشيخ عبد الغني النابلسي من أعظم الوجوه الصوفية التي شغلت بشخصيتها وتآليفها بلاد العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري، وتركت مؤلفاته وآراؤه وسيرته أكبر الأثر على أجيال المتصوفة التي أتت بعده، كما كانت رحلاته وسياحاته مصدراً مهماً من مصادر معرفة البلدان في بلاد الشام ومصر والحجاز.

ولد عبد الغني بن إسماعيل بن عبد الغني بن إسماعيل الكناني الحموي الأصل المقدسي الشهير بابن النابلسي، بدمشق يوم الأحد، الرابع من شهر ذي الحجة سنة 1050 للهجرة، الموافق للسابع من آذار من عام 1640 للميلاد. وتوفي في دمشق أيضاً بعد مرض ألمّ به في الرابع والعشرين من شعبان سنة 1143 هجرية، الموافق لعام 1739 ميلادي.

وتعود أسرة الشيخ عبد الغني النابلسي بأصولها إلى حماة، فجدّه الثاني عشر برهان الدين إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة ولد بحماة سنة 596هـ، ثم انتقل إلى دمشق ليتلقى العلوم على علمائها، وفي سنة 675 قصد بيت المقدس زائرا، فمات بعد وصوله بأيام، فبقيت أسرته في بيت المقدس، ودرس أولاده فيها، وتعلموا في مساجدها، وعلى مشايخها، ثم تولَّوْا بعد ذلك خطابة المسجد الأقصى وغيره.

وأول من انتقل إلى دمشق منهم جد النابلسي الرابع إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم برهان الدين، وليس بين يدينا ما يدل على سبب هذا الانتقال.

وقد ترجم للنابلسي كثيرون، منهم كمال الدين الغزي المتوفى سنة 1214هـ/ 1799م، الذي سمى كتابه (الورد الأنسي والوارد القدسي في ترجمة العارف عبد الغني النابلسي)، ويحوي هذا الكتاب على ثلاثة عشر باباً ومقدمة وخاتمة.

ويلي هذا الكتاب أهمية في ترجمة النابلسي تلك الترجمة التي سطّرها له المرادي في سلك الدرر، لما تحويه من تعداد لأساتذته، ولما فيها من قائمة طيبة لمؤلفاته مع ذكر لتصوفه وولادته ووفاته.

وبعدها تأتي الترجمة التي أودعها النبهاني كتابه "جامع كرامات الأولياء"، فهي ملخصة علماً في السلك، مع ذكر تفصيلي ومن دون اختصار لمؤلفاته وكتبه ورسائله.

وأفرد له المحبي في نفحته عدة صفحات ترجم فيها لأسرته بدءاً من جده ثم ترجم لأبيه ثم له، ويؤخذ عليها أنها تراجم أديبة مسجَّعة على طريقة يتيمة الدهر للثعالبي ولكنه بث فيها مختارات من أشعارهم. وما أورده ابن شاشو في تراجم بعض أعيان دمشق لا يختلف كثيراً عما أورده المحبي.

وكذلك فإن الجبرتي ذكره في تاريخه في حوادث سنة 1143هـ وذكر سنة ولادته ووفاته وبعضاً من كتبه.
وله ترجمة كذلك في كتاب الباشاة والقضاة ضمن كتاب ولادة دمشق في العهد العثماني.

وفي العصر الحاضر ترجم للنابلسي خير الدين الزركلي، رحمه الله، في أعلامه، وكحالة في معجم المؤلفين، وذيّل كحالة ترجمته بقائمة طيبة للمصادر تضم المصادر العربية المخطوطة، والمطبوعة، والمصادر الأجنبية، ثم المجلات العربية. رحمه الله.

بدت على النابلسي منذ صغره ملامح الذكاء، ما دفع الأب إلى أن يميزه على إخوته بعناية خاصة، فختم القرآن وهو في سن الخامسة، وحفظ الألفية والشاطبية والرحبية والجزرية وهو في سن العاشرة، بل قال الشعر في رثاء والدته التي توفيت سنة (1062هـ)، وسنه إذ ذاك اثنتا عشرة سنة.

ونتيجة لهذا النبوغ المبكر، فقد بدأ بالإنتاج مبكراً، فما بلغ سن العشرين حتى باشر بإلقاء الدروس وتصنيف الكتب. ومنذ صغره أدمن على قراءة كتب المتصوفة، كابن عربي وابن سبعي والعفيف التلمساني، فعادت عليه بركة أنفاسهم ـ على حد قول سبطه الغزي ـ فأتاه الفتح اللدني.

وتروي الكتب أنه دخل الخلوة ولزم العزلة في داره قرب المسجد الأموي سنة 1091هـ، وظل في هذه العزلة بعيداً عن الناس، لا يكلم أحداً، ولا يخرج إلا لحاجة، وترك الأكل والشرب إلا ما يقيم أوده، وداوم على الذكر والصلاة ودراسة القرآن الكريم، وبعد سبع سنوات خرج من خلوته بعدد من كتبه المعروفة، وصار بعد هذه الخلوة أحد أعلام التصوف في العالم الإسلامي.

وبعد هذه الخلوة أكثر من التردد على ضرائح الأولياء، وقبور الصالحين، يزورهم، ويبحث عنهم، ويقرأ سيرهم، ومؤلفاتهم، وأقوالهم، ويدافع عنهم ضد المنكرين عليهم، ويمدحهم نثراً وشعراً. وحين بلغ هذا المبلغ، صار يقرئ الناس التصوف في دروسه شارحاً لهم كل أفكارهم بالتفصيل للخاص والعام.

انتخبه أهل دمشق في عام 1135 مفتياً لدمشق بعد وفاة مفتيها محمد ابن إبراهيم العمادي، فرفض، ولكنهم ألحوا عليه فقبل، فكتبوا إلى الدولة العلية فجاء الأمر بتولية خليل بن أسعد الصديقي.


رحلاته

كان النابلسي من المغرمين بالرحلات والتي بلغت خمس رحلات، أربع منها في حوالي اثني عشر عاماً، وقد كان هدفه من هذه الرحلات زيارة الأولياء الصالحين والتبرك بقبورهم، ليرضي الجانب الصوفي في نفسه، وهدفه الثاني من رحلاته الاجتماع بأهل الصلاح والدين ليرضي الجانب الديني في نفسه، وثمة هدف ثالث هو التباحث مع علماء هذه الأمصار ليرضي الجانب العلمي في نفسه، والهدف الأخير هو الاستمتاع بالتنزه في البساتين والغيطان وذلك ليرضي ميله الفطري إلى التمتع بجمال الطبيعة.

قام النابلسي بعدة رحلات أو سياحات على عادة المتصوفة وسجل مجريات رحلاته ومشاهداته فيها في عدة كتب مهمة وصلت إلينا، وهي:

الرحلة الأولى:

قام بها إلى دار الخلافة في الآستانة سنة 1075، وهي الرحلة الوحيدة التي لم يسجل عنها ملاحظاته وانطباعاته وخط سيره.

الرحلة الثانية:

قام بها إلى لبنان سنة 1100. وكانت وجهته فيها سهل البقاع وجبل لبنان، وسماها (حلة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز)، نشرها الأستاذ صلاح الدين المنجد بالتعاون مع المستشرق الألماني شتيفان فيلد في كتاب رحلتان إلى لبنان للنابلسي والعطيفي، وصدر ضمن منشورات المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت عام 1979م.

في بيت المقدس

هناك أيضا الرحلة الثالثة: إلى فلسطين، وقام بها سنة 1101. وقصد فيها زيارة بيت المقدس وبلد الخليل، ووصف رحلته في كتاب سمَّاه (الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية)، وطبعت في مطبعة جريدة الإخلاص في القاهرة عام 1902م بعناية ديمتري نيقولا، وأعادت طبعها مكتبة القاهرة بالصناديقية بالأزهر، بعنوان رحلتي إلى القدس، ثم أعاد نشرها وتحقيقها الأستاذ أكرم حسن العلبي وصدرت عن دار المصادر في بيروت عام 1990م.

الرحلة الرابعة:

قام بها سنة 1105 وهي رحلتنا هذه. وطاف فيها على بعض مدن الشام ومصر والحجاز، وهي رحلته الكبرى، وصف أخبارها في كتاب بعنوان (الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز)، وطبعت هذه الرحلة في عام 1299هـ [1881- 1882م]، ثم بالقاهرة عام 1324هـ [1906م]، وقد صدرت منها قبل سنوات طبعة مصورة عن إحدى نسخها المخطوطة، أعدها للنشر وقدم لها الدكتور أحمد عبد المجيد هريدي، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة، عام 1986م.

كما قام بنشرها محققة رياض عبد الحميد مراد وصدرت عن دار المعرفة بدمشق عام 1989م، وتحتل هذه الرحلة أهمية خاصة تمتاز فيها عن سواها من رحلات الشيخ فهي أبعدها مدى، وأكبرها حجماً.

نحو طرابلس

قام النابلسي أيضا برحلة خامسة إلى طرابلس سنة 1112، سمَّاها (الحلة النابلسية في الرحلة الطرابلسية)، وقام بنشرها هيربيرت بوسِّه، وصدرت ضمن منشورات المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت عام 1971م.

لقد ترك النابلسي تراثاً كبيراً في أدب الرحلات أو السياحات الصوفية، ونهل منه كثيرون وحاولوا أن ينسجوا على منواله ولكن لم يصل أي منهم إلى ما وصل إليه الشيخ النابلسي، الذي كان بالإضافة إلى مشاهداته، يغني نصوصه بالمصادر الجغرافية والبلدانية الشهيرة، ويحاول أن يناقش معاني الأسماء وتحقيقها، وتعد رحلاته مرآة لعصره، فهي تبين بأمانة متناهية الأوضاع التي كانت سائدة في الأماكن التي كان يزورها، وهي مرحلة حساسة مثلت بدايات انهيار السلطة المركزية العثمانية في بلاد الشام التي بدأت منذ ذلك الوقت تعاني من الفوضى وسيطرة اللصوص وقطاع الطرق، وهو ما خلف الخراب في بلاد الشام، والذي استمر أكثر من مئتي عام بشكل متواصل.

في هذه المقاطع التي اخترناها من رحلته الكبرى زار الشيخ النابلسي القدس الشريف ثم عرج على بيت لحم، حيث حل بضيافة الرهبان، وكتب في ذلك قصيدة يصف فيها آلة الأرغن الموسيقية الكنسية التي استحوذت على إعجابه، فكتب فيها أبياتاً بينت ذائقته الموسيقية الخاصة.

 أولاد الشيخ العلمي في الاستقبال

ثم ركبنا وسرنا في تلك الجبال العالية، والأودية الخالية؛ إلى أن أشرفنا على مدينة القدس الشريف، وقربنا من هاتيك المعاهد القديمة، بلا تسويف، فنظمنا هذه الأبيات على البديهة: [من الطويل]
دَخَلْنا بعَونِ اللهِ في حَضْرَةِ القُدْسِ وَقَدْ لاحَتْ الأنْوارُ من جانب القُدسِ
وَهَبَّتْ عَلَيْنا نَسْمةٌ مَنْدِليَّةٌ تَبُثُّ شَذا الألْطافِ من رَوْضَةِ الأُنْسِ
سَقى اللهُ هاتيكَ الجبالَ التي عَلَتْ وفاقَتْ على الأجْيال في النَّوْعِ والجنْسِ
وَصَحْبٍ كرامٍ في الركابِ ألِفتُهُمْ يجوزُون لِينَ العُرْب مَعْ أدَب الفُرسِ
إلى الحَرَمِ القُدْسيّ كانَ مسيرُنا لنُشْرِفَ من تِلكَ الأماكن باللَّمسِ

ثم لم نزل سائرين إلى أن خرج لاستقبالنا أولاد الشيخ العلمي وجماعتهم، وطائفة من الإخوان والمحبين، حتى نزلنا من تلك العقبة، وشكرنا الله تعالى حيث من الهم فككنا القربة؛ ومررنا على المدرسة الجراحية، وزرنا من دفن فيها من هياكل تلك الأرواح الراضية المرضية.

ثم سرنا نَؤُمّ البيت المقدس، الذي هو على لطائف الأسرار مؤسس... واجتمعنا بصديقنا الشيخ الفاضل العالم الصالح محمد البدري الدمياطي الشهير بابن الميت. وكان قدم علينا سابقاً إلى دمشق الشام في أواخر شوال سنة أربع ومئةٍ وألفٍ، ومعه تلميذه الشيخ الكامل مصطفى الحريثي الدمياطي..
فجلسنا في المدرسة القادرية التي هي منزلنا ذات الخلوات اللطيفة، والجلوات العلية.

وقد ورد علينا أهل البلاد من الإخوان والأصحاب، وأهل المودة والأحباب؛ وجاء إلى عندنا نائب القضاء في تلك البلدة، وحضرة مفخر ذوي المكارم (علي جوربجي النابلسي)، ومن معه من أهل الكمال والنجدة، ومشايخ الحرمة القدسي، والعلماء والصالحون من ذوي المقام الأنسي؛ ومنهم الشيخ الصالح. محمد المالكي المؤقتُ بالحرم الشريف، وإمام المالكية فيه، وغيرهم من بقية الناس، من كل نبيل نبيه.

فجلسنا في مكاننا المعهود. حتى أتى لزيارتنا فخر الموالي الكرام، ذوي الكرم والجود، عطاء الله أفندي القاضي يومئذ بمدينة القدس المحروسة، لا زالت شجرات الكمال في رياضها مغروسة؛ وهو من أولاد العلامة، العمدة الفهامة، شيخ الإسلام جوى زاده المفتي سابقاً بالديار الرومية، مقر السلطنة العلية.

واجتمعنا به سابقاً في بلادنا دمشق الشام، وأتى إلى زيارتنا هناك أيضاً بكمال الاحتشام، وجرت بيننا وبينه مطارحات أدبية، ومصاحبات عرفية، ومباحثات علمية؛ حتى انساق بنا الكلام، فذكرنا له أن بين جد والدنا الشيخ إسماعيل النابلسي الكبير، صاحب الفضل الشهير، المذكور سابقاً، وبين جده الأعلى جوى زاده المفتي بالديار الرومية سابقاً مكاتبات ومراسلات.
شعر لجد والد المؤلف

فمن ذلك ما وجدته بخطه الكريم، أنه كتبه أيام المحنة يشكو فيها جور بعض الحكام بدمشق الشام، وأرسلها للمولى المذكور في أواخر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وتسعمائة، وهي قوله وقد تقدم بعضها: [من الطويل]

ترفَّقْ بقَلْبٍ من تَجّنيكَ يَخْفِقُ وَإنْسانِ عَيْنٍ كادَ بالدَّمْعِ يَغْرقُ
وَإياكَ من ذِكْرَى محاسنٍ جلَّقٍ وأنهارِها السَّبْع التي تتَدَّفقُ
وَجامعِها والنَّيْرَبيْنِ ومَرجها وَمَرْجَتِها الخَضْراءِ وَالزَّهْرُ يَعْبَقُ
وَجنّاتها اللاّتي حَوَتْ كُلَّ بهجةً حدائِقُها بالنُّورِ والنَّوْرِ تحدقُ
.....

ووُلْدانِها من كُلِّ أَهيِفَ مائسٍ له وَجْنةٌ حَمْراءُ كالشَّمْسِ تُشْرِقُ
ألا لا تُذكِّرني بألْطافِ جِلَّقٍ فتُصمي فُؤادي بالتَّذكُّرِ جِلَّقُ
لَقَدْ غالَها غولٌ وأقْفَر أُنسها وزالَ بهاءٌ كانَ فيها وروْنقُ
وأظلمَ واديها المُقَدَّسُ وانطَوتْ أشعَّةُ أنوارِ بها تتألَّقُ
ولاقَتْ من الجورِ المُبَرّحُ وَالأسى وفتْكِ ظلومٍ للعيونِ يُؤرّقُ

يُذَكّرنا ايَّامَ تَيمورَ فعله وفي سيرةِ الحَجَّاجِ بالظُّلم يسبقُ
ولكنَّه والله أربى عليهما وعنه يزيدٌ ناقِصٌ ليس يَلْحَقُ
ثم قمنا فذهبنا، نحن والإخوان، إلى زيارة الحرم القدسي، والمشهد الشريف الأنسي؛ فزرنا الصخرة الشريفة، ومسجدها المبارك، والقدم الشريف، ومحراب القبلتين، ومحراب إدريس، والبلاطة السوداء، وهاتيك الآثار المنيفة.

ثم نزلنا تحت الصخرة في ذلك الدرج، وزرنا لسان الصخرة، ومقام الخضر، ومحراب داود، عليهما السلام.
ثم خرجنا فزرنا قبة السلسلة، وقبة الأرواح.

وذهبنا إلى المسجد الأقصى، وزرنا ما فيه من الأماكن الشريفة التي فصَّلنا الكلامَ عليها في رحلتنا الوسطى المسمى (بالحضرة الأنسية في الرحلة القدسية). ثم عُدنا إلى مكاننا في المدرسة القادرية، وصلينا الظهر ثم سرنا، نحن والإخوان.

فزرنا التربة الملاصقة للسور، عند باب الرحمة وباب التوبة المسدودين الآن. لكونهما يفتحان إلى الجهة الخالية من سكنى إنسان، والسلوك إلى شيء من البلدان؛ وزرنا هناك قبر عبادة بن الصامت وشداد بن أوس، الصحابيين المشهورين ومن دفن حولهما من قبور المسلمين. ثم ذهبنا إلى عين سلوان، في أسفل الوادي، ولنا في ذكر هذه العين كلام منظوم ومنثور في الرحلة القدسية.

جبل الطور

ثم صعدنا إلى جبل الطور.
قال ياقوت في المشترك الطُّور في لغة العبرانية اسمٌ لكلِّ جبلٍ، ثم صار علماً لجبالٍ بعينها، منها: طور زيتا... جبلٌ بالبيتِ المُقَدَّسِ. وفي الأثر: مات بطور زيتا سبعون ألف نبي، قتلَهَمُ الجوعُ، [وهو شرقي وادي سلوان]، انتهى.
الصراط والمهد

وصعدنا على المكان الذي يسمونه بالصراط، ثم نزلنا إلى المهد، مهد عيسى، وفيه مقام الحواريين، ومقام الخضر .

ثم دخلنا إلى المدرسة التي بجانب جامع المغاربة وهي المدرسة المسماة بالفخرية، وهي في غاية من الحسن والإتقان، وكمال البهاء، وجمال البنيان، وفيها جملة من الكتب، ورأينا فيها ديوان أبي العلاء المعري وشرحه، ورأينا هناك مكتوباً له هذين البيتين وهما قوله: [مخلع البسيط]
قَالُوا العَمى مَنظرٌ قَبيحٌ قُلْتُ لفَقْدي لكم يَهونُ
والله ما في الأنامِ شيءٌ تأْسَى على فَقْدِه العُيونُ


قرية بيت لحم

ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى قرية بيت لحم، من أعمال بيت المقدس، وزرنا هناك في تلك الكنيسة مولد عيسى عليه السلام، وموضع النخلة والمهد، تبركاً بآثار النبي المعصوم، وتيمناً بذلك العهد، ولله درّ الشهاب الخفاجي، حيث لم يزل للرقة واللطافة يناجي؛ وهو من ديوانه المشهور، الذي هو بالفصاحة معمور، وبالبلاغة مغمور فقال: [من الوافر]

أرَى البيتَ المُقَدّس صاد قَلْبي وما حرم حواه غير جسمي
فأشْرَق ربُّنا مشكاةَ نُورٍ بلا نارٍ له ليزيلَ وَهمي
وَرُوحُ القُدْسِ فيه له قرارٌ ومَوْلِده به في بيت لحمِ
شعر في الأرغلا

وقد أضافنا هناك بعض الرهبان، بما تيسر من الزادِ نحن ومن معنا من الإخوان، وأسمعونا فيه صوت الأرغلا، فكأنهم استنطقوا شحروراً وهزاراً وبلبلاً؛ وما أحسن في هذا المقام تشريف لساني، بما أنشده جناب العارف الكامل عفيف الدين التلمساني، قدس الله تعالى سره، وأعظم في الدارين مقره، حيث قال: [من السريع]

بِتْنا يُعَنّينا الهَزارُ الذي يُطْربُ باللَّحْنِ إذا ما تَلا
وَيَجْمَع الأنْعامَ في صَوْتِه كَأنَّما يَسْتَنْطِقُ الأرْغُلا
وقلنا في ذلك العهد من النظام، ما تتنبه له عيون الأفهام: [من الرمل]
قَدْ سَمِعْنا نَغَماتِ الأرْغُلا وَهْوَ بالأرْغُون يُدْعى في المَلا
فَسَمِعْنا كُلَّ صَوْت مُطْربٍ ضمن صَوْتٍ واحدٍ قَدْ حَصَلا
نَغَماتٌ جُمِعَتْ في نَغْمَةٍ بِتَفاصِيلٍ تَبَدَّتْ جُملا
صَوْتُ طنبورٍ وسنطير معاً وَربابٍ ثم مِزْمارٍ تَلا
مَعَ طَبْلٍ ودُفوفٍ طُرِقَتْ وَصُنوجٍ تَتَغَنّى زَجَلا
آلُة تَجْمَع آلاتٍ فما هُوَ إلا عبرة للنُّبَلا
وله صورةُ صًنْدوقٍ به حارتِ الأفْكارُ بَيْن العُقَلا
مَجْمعُ الأسرارِ لا يعرفُه غير قَلْب بالإله اشْتَغَلا

دلالات