أن تكون اللغة الفرنسية "غنيمة حرب"، بحسب عبارة كاتب ياسين، هل ينزع ذلك عنها طابعها الكولونيالي أو يعفيها من أن تكون وسيلة هيمنة حتى بعد زوال الاستعمار؟ سؤال يظلّ حافاً بفكرة الفرنكفونية وحارقاً في كل ثقافة تقاطعت مع فرنسا، عبر الاستعمار أساساً، إذ طالما أصرّت الأخيرة أن تظلّ متسلطة، بطريريكية، قامعة، خلف البضائع الثقافية التي تروّجها مثل مبادئ عصر التنوير وإنجازات الثورة الفرنسية وأشعار فيكتور هيغو أو أفكار أوغست كونت وجان بول سارتر.
المفارقة أن أداة الفرنكفونية التي طُرحت في البداية كإطار نظري يعبّر عن التوسّع اللغوي الفرنسي باتت بأثر من تراكمات تاريخية عدة فرصة للتخفيف من هذا التسلّط الثقافي والسياسي الذي حافظت عليه فرنسا حتى وهي تغادر مستعمراتها السابقة، أي أنها باتت إطاراً نظرياً لمكافحة الهيمنة الثقافية الفرنسية، وضمن هذا الإطار يتحرّك منذ سنوات الكاتب الكونغولي آلان موبانكو (1966) حيث يراوح بين كتابة سردية كثيراً ما عملت على خلخلة مسلّمات الهمينة مثل "أزرق-أبيض-أحمر" (1989)، و"البازار الأسود" (2009)، و"اللقالق لا تموت" (2018)، إضافة إلى أعمال فكرية مثل "أوروبا انطلاقاً من أفريقيا" (2009)، و"أن نفكر ونكتب أفريقيا اليوم" (2017).
موبانكو كان ضيف أمسية فكرية أقيمت في مقر "المعهد الوطني للتراث" في تونس العاصمة، الخميس الماضي، حيث ألقى محاضرة بعنوان "إعادة التفكير في الفرنكفونية"، وقد انطلق فيها من تساؤل حول مشروعية سؤاله، معتبراً أنه من الضروري اليوم وضع "الفرنكفونية على طاولة التشريح، وفتح بطنها، والنظر في نواياها كل مرّة".
يعود الكاتب الكونغولي إلى توضيح البدايات التاريخية للمصطلح، منوّهاً إلى أن الفرنكفونية إمبريالية في أصولها، لكنها قابلة للتوظيف من قبل ضحاياها، ضارباً مثلاً بتحوّلاتها في منتصف القرن الماضي، مع موجة استقلال البلاد المستعمرة، خصوصاً مع ليوبولد سنغور وحبيب بورقيبة، حيث تحوّلت إلى نقطة لقاء بين ثقافات متعددة ما كان لها أن تتعارف وتشترك في المصالح دون لغة مشتركة توفرها الفرنسية على الرغم من كونها لغة المستعمر السابق، ومن هنا يقدّم طرحه بضرورة الاشتغال على الفرنكفونية مجدداً لتكون في صالح الشعوب.
يجعل مابونكو من هذه الأفكار أرضية ليشرح واقع الفرنكفونية اليوم، معتمداً لغة مرحة إلى حدّ كبير في توصيف المؤسسة التي تجعل من نفسها إطاراً لفكرة الفرنكفونية والتي يجدها ضد مصالح الشعوب، ولا غرابة في ذلك على اعتبار أن "من يقود منظمة الفرنكفونية اليوم هم ممثلو الدول الأعضاء، ومعظمهم من الساهرين على إبقاء شعوبهم تحت سقف الفقر والقمع والتهميش" مشيراً بالأساس إلى وضع بلده الكونغو.
يعرّج المحاضر إلى أن هذا النوع من الطرح كثيراً ما فهم كدعوة لفرنسا بالتدخل في شعوب المنطقة، لكن الأمر بالنسبة له مختلف تماماً حيث يدعو أن تكون منظمة الفرنكفونية تعبيراً عن طموحات الشعوب الناطقة بالفرنسية، متسائلاً هنا: "هل نجد بأن الحرية أو الديمقراطية هاجس في اجتماع القمم الفرنكفونية؟ هل أن مصالح الشعوب الاقتصادية والاجتماعية حاضرة؟".
يوجز ذلك بالقول: "لا يبدو أن الفرنكفونية ترى ما يحدث من فساد وديكتاتورية"، ليصف أداء "المنظمة العالمية للفرنكفونية" بشكل ساخر: "مكان يكون فيه الجميع راضياً عن كل شيء، دون أن يعرفوا عماذا هم راضون".
بالنسبة لمابونكو، فإن هذا الوضع منطقي حين نعرف قواعد اللعبة داخل "الجهاز الفرنكفوني"، إذ يقول: "نحن نعلم بأن المرشّحين للمواقع الأساسية في المنظمة يقومون بحملاتهم بين رؤساء الدول الأعضاء، ومعظهم قامعون لشعوبهم وفاسدون، وفي المحصلة سنجد هيئة تتكوّن من شخصيات تحاول أن ترضي من ساعدهم للوصول إلى مناصبهم".
يخصّص الكاتب الكونغولي جزءاً من حديثه للتطرّق إلى الوضع الإشكالي لفرنسا داخل الفرنكفونية اليوم، وهو يرى بأنه "ينبغي أن نعتبر فرنسا بلداً فرنكفونياً مثل بقية بلدان المنظمة"، وهو طرح يتماشى مع واقع ثقافي معولم لم يعد فيه معنى لمركز وأطراف.
غير أن مابونكو يعترف بأن الواقع ليس كذلك، فـ"الفرنكفونية لا تزال تحافظ على نزعات استعمارية، إنها وسيلة هيمنة خصوصاً حين نجد أن فرنسا ظلّت تحتكر الحلول لمعظم مشاكل الشعوب الفرنكفونية"، وهو وضع يمكن من خلاله فضح تناقضات الفرنكفونية والدفع نحو إصلاحها، كما أنه يمكن استثماره من زاوية عملية إذ يتساءل: "هل يوجد ما يؤلم الطغاة الأفارقة أكثر من أن تعزلهم أو تهملهم فرنسا؟"، وإذا كان هذا السؤال يفترض بقاء الأبوية الفرنسية على حالها، فهو أيضاً يضع فرنسا أمام مسؤولياتها الأخلاقية التي تتنصّل منها.
هنا، يعتبر مابونكو أن من واجب المثقفين الذين يتحركون ضمن هذا الإطار التنبيه إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه الفرنكفونية مقابل الدور المحرّف والموظّف لمصالح الهيمنة شمال - جنوب أو إبقاء الوضع على حاله داخل البلدان المقموعة.
يعود مابونكو، بعد ذلك، إلى أسئلته الأولى: ماذا تنفعنا الفرنكفونية لنكون داخلها؟ هل هي مجرّد اجتماعات دورية؟ وهي أسئلة يمهّد بها لتشعبات أخرى في إشكاليته، حيث يشير إلى أن "مركز الثقل في الفرنكفونية اليوم لم يعد باريس، فهل نجد انتباهاً لذلك في المكان الذي يدّعي الاعتناء بالمشترك بين شعوب الفرنكفونية؟"، سؤال يفضي لأسئلة أخرى: "هل ينفتح هذا الجهاز على الدراسات اللسانية والمعجمية التي تقول بشكل حاسم بأن الفرنسية اليوم لغة هجينة، تثريها أساساً لغات شعوب المستعمرات السابقة، لقد غامرت اللغة الفرنسية خارج أرضها فحدث أن تزاوجت كلمة عربية أو سواحلية مع تركيبة صوتية فرنسية لتُنتج مصطلحاً جديداً حتى إذا وصل باريس قيل بفزع: ابنُ من هذا؟ وجرى التنكّر له، وبالتدريج بدأ الاعتراف به انطلاقاً من الأدب ثم في حقول أخرى".
في الوقت الذي يَفتح فيه طرحُ مسألة الفرنكفونية في بلدان عربية مثل تونس والجزائر والمغرب ولبنان على جدل ساخن ومتوتّر، فإن مابونكو يقدّم طرحه بأريحية ومرح، لعلنا نحتاجهما في جعل الفرنكفونية مطواعة لمصالحنا كما كانت خاضعة لمصالح المستعمِر، سابقاً وحتى الآن، وإلا فأي معنى لغنيمة حرب تستمر في إيذائنا؟