تعكس النقوش والكتابات في العصور الإسلامية المختلفة لدى دراساتها معرفة ضمن مستويات مختلفة، تبدأ من قراءة الفنون وتطوّرها، ورصد تاريخ المدن والمعالم التاريخية التي احتوتها، وتكشف واقع فئات المجتمع ومكوّنات السكان، وأدق تفاصيل المهن الموجودة حينها، وتشير إلى النظام المالي وقد تفسّر العوامل التي أدت إلى انهيار الاقتصاد والدولة بشكل عام.
يتخصّص الباحث والأكاديمي المصري فرج الحسيني في العصور الوسطى، إذ يوضّح كتابه "النقوش الكتابية الفاطمية على العمائر في مصر" (2007) طبيعة الصراعات التي خاضها الفاطميون مع جوارهم، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتأثيرات الثقافية المتنوّعة التي وقعت على الحِرف والفن آنذاك.
في كتابه "ديوان الخط العربي في سورية: نقوش العمائر المملوكية (658 - 922هـ/ 1260- 1516م) الذي صدر حديثاً عن "مركز دراسات الكتابات والخطوط" في "مكتبة الإسكندرية"، يسلّط الضوء على جميع أنواع النقوش في تلك المرحلة في بلاد الشام، سواء أكانت تأسيسية أو وقفية أو دعائية أو دينية.
يعرض الفصل الأول لاستخدام الخط العربي في الآثار الإسلامية وخصائصه وأثر العقيدة عليه، ثم يخصّص الفصل الثاني لنشأة خط الثلث في القرن الرابع الهجري، ولكن لم يأخذ حظّه في الانتشار إلا بعد قرنين، حيث جرى اعتماده للمرة الأولى لصك النقود والكتابة على شواهد القبور وفي نقوش مختلفة خلال الفترة المملوكية، إضافة إلى استعمال الخط الكوفي الذي يعود إلى عهد أقدم والجمع بينهما.
يتناول الكتاب جميع أنواع العمائر؛ دينية في المساجد والمدارس وزوايا وتكايا وخانقاوات ومقابر، وحربية كالقلاع والحصون والأسوار، ومدنية تشمل البيمارستانات والأسبل (جمع سبيل الماء) والخانات والطواحين في دمشق وحلب وحماة وحمص واللاذقية وجبلة والباب وغيرها من المدن الصغيرة.
يلفت الحسيني إلى حجم الخط ونوعه ووضوحه تحدّد وظيفته التي تعبّر عن طبيعة استخدامه، فنُقشت أسماء السلاطين والولاة مثلاً لتشير إلى قوّتهم ونفوذهم حيث تتابين عدد الألقاب ومراتبها من سلطان ووالٍ إلى آخر، ويختلف شكله على مدخل الأبنية بحسب استخداماتها في الدولة.
ينبّه الكتاب إلى احتواء النقوش على ألفاظ عربية فصيحة وألفاظ أعجمية ومعربة، ما يعطي صورة واضحة حول واقع اللغة العربية وحضورها، وكيف استدخلت ألفاظاً غير عربية في نحت المصطلحات والرتب العسكرية على وجه التحديد مثل السلاحدار والبندقدار والبشمقدار، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة الحاكمة، وكذلك النزوع إلى التخفيف في كتابة المفردات تقترب أكثر من نطقها في اللهجة الدارجة، ومنها بير (بئر) وجيت (جئت) وغيرهما.
في فصول لاحقة، يستكشف المؤلّف مسائل تتعلّق بالضرائب والغرامات والمكوس التي اختصّت بنقوش لاختلاف طبيعة المصطلحات والصفات التي تُكتب بها المراسيم السلطانية، كما تتضح أسباب فرضها والكيفية التي يجري تحصيلها.
يتتبّع الكتاب نقوشاً تشير إلى بعض السلوكيات ذات الصلة بالرشاوى والفساد واحتكار التجار والممارسات الجائرة في الأسواق، كما يدرس طبيعة الكتابات في المنشآت التعليمية واختلاف وظائفها، وتلك التي تحتويها المؤسسات الدينية ضمن مقاربة لا تفصل السلطة عن الثروة والمجتمع.