"هاملت ماكينة": شعرية القسمة على ثلاثة

08 يوليو 2018
(من العرض)
+ الخط -

عن نص يعود إلى 1977، وضعه الكاتب المسرحي الألماني هاينر مولر (1929 - 1995)، تتكئ المخرجة اللبنانية لينا عسيران في مسرحية "هاملت ماكينة" التي عرضت مؤخراً في "استديو زقاق المسرحي"، وعلى خشبة "مسرح دوار الشمس" في بيروت.

لم يكن نص مولر يتجاوز الصفحات العشر حين نشره أول مرة (لاحقاً صدر في مئتي صفحة) رغم ذلك شدّ الانتباه في زمانه لروح الابتكار فيه. فعند صدوره الأول، أشار النقاد إلى حسن إدارة العناصر فيه، بالرغم من غياب الحبكة التقليدية في النص، وخصوصاً قدرته على اللعب على شخصية معروفة وإيصال رسائل أخرى من خلالها، وفي هذا الإطار قرأ نقاد آخرون النص على أنه انتقاد لدور المثقفين خلال الحقبة الشيوعية التي عاشتها ألمانيا الشرقية سابقاً، ويمكن القول إن عسيران استطاعت إسقاط ذلك على المرحلة العربية الراهنة، التي تشهد هي الأخرى حراكاً في أكثر من اتجاه، وفي الأثناء كثيراً ما يجري تعرية دور المثقف في المجتمع وعلاقته بالسلطة.

منذ البداية يجري التلاعب بالمتفرّج، إذ ينطلق العرض على أساس أننا أمام شخصيتي هاملت وأوفيليا الشكسبيريّتين، غير أن مؤدّي هاملت سرعان ما يكشف عن تخلّيه عن الحكاية المعروفة التي وضعها المسرحي الإنكليزي منذ قرون وجرى تداولها كما هي، وبالتالي ينزع هاملت عنه ذلك المصير المأساوي وينتفض على الواقع المحيط به. يقول: "أنا لست هاملت، لم أعد ألعب أي دور. ليس لكلماتي شيء تقوله لي بعد، أفكاري تمتص الدماء من الصور، دراماي لم تعد تحدث، لن أمثل بعد الآن".

في النسخة المسرحية التي تقدّمها عسيران، يجد المتلقي نفسه أمام شخصية هاملت مقسّمة على ثلاثة ممثلين (هم: عمر الجباعي، وزكريا فاكور، ومحمد المفتي). كل ممثّل من هؤلاء يؤدّي احتمالاً من احتمالات هذه الشخصية، فنحن أمام هاملت المتمرد البذيء، وحيال هاملت الجنساني، وأخيراً مع هاملت الثائر أو الملتزم السياسي.

ينطبق الأمر نفسه، من تقسيم الشخصية الواحدة على ثلاثة مؤدّين، على شخصية أوفيليا فهي تقدم بثلاث ممثلات (هن: دانا ميكايل، ونيفين كلاس، وروى حسامي)، وفي هذه الحالة نواجه أمامنا كلاً من: أوفيليا العاطفية، وأوفيليا الجنسانية، وأوفيليا المتمردة.

بشكل عام، أظهر الممثلون قدرة على فهم الشخصيات والغوص في تركيبتها. ثمة إقناع أن هاملت وأوفيليا قابلان لهذه التنويعات التي تقترحها المسرحية، وبالتأكيد يعود ذلك إلى قدرة على إبراز العالم النفساني والذهني المظلم والقاسي في هاتين الشخصيتين مما يتطلب من المؤدي والمؤدية جهوداً مكثّفة على المستوى الانفعالي والذهني للوصول إلى ما أراده كاتب النص.

خيار توزيع الشخصية الواحدة في النص على ثلاثة ممثلين على الخشبة، يشي برؤية مسرحية ذكية، لكنه يتطلب انضباطاً أدائياً دقيقاً كي لا يتوه المتفرّج بين وجوه الممثلين، ويبقى ماسكاً بالمعنى العام الذي يراد إيصاله. المسألة تطرح خصوصاً حين نعلم أن هذه المسرحية تعتمد على شعرية المونولوجات بما تتطلّبه من أداء تمثيلي واع ومترابط، وبالتالي دقة أكبر في إلقاء النص، وحسن إنجاز الوقفات الصامتة، وخصوصاً إشعار المتلقي بالانتقال من أداء إلى آخر مع البقاء في إطار الشخصية نفسها.

هذه المسألة سبق وأن أشار لها جنيد سري الدين، مترجم المسرحية إلى العربية، بشكل ما في تقديمه للنص، حيث كتب: "هناك خصوصية في بنية النص الكلامية، خصوصية التداخل ما بين الطابعين المسرحي والأدبي ودقة هذه المعادلة في النص. تتداخل في "هاملت ماكينة" الحوارات المسرحية والمونولوجات، وتتشابك مع الطبيعة النثرية والشعرية في الأدب".

عموماً، قدّمت عسيران مشهدية بصرية أنيقة، تتمظهر في أكثر من صعيد: الإضاءة، الأزياء، الأغراض المسرحية، وهنا تجدر الإشارة إلى النحت الحديدي الذي تعرضه السينوغرافيا كمعادل تشكيلي للماكينة التي ترد في العنوان، النحت الحديدي يذكر بتكوينه العنكبوبتي بأعمال النحاتة الفرنسية الأميركية لويز بورجوا (1911 - 2010)، والتي اتخذت من العناكب نقطة ارتكاز إلهامية لأعمالها النحتية المعدنية.

لعل هذه السينوغرافيا، والإخراج بشكل عام، ساعدا في إيصال روح النص إلى المتلقي الذي يحتاج فسحة زمنية لتفكيك أكثر من خطاب، ومن دون ذلك ستتداخل المقاطع والشخصيات والمواقف، وهنا يمكن أن نتحسّس قدرة المسرح في إدارة هكذا أفكار مبتكرة وإخراجها بصرياً بفضل مؤثرات بصرية مختلفة وطبعاً حُسن إدارة الممثلين.

ولا يخفى أن الوصول إلى تمرير متعة بصرية للمتفرّج، وإقناعه بمقولات العمل، تتطلب إدماج مصمّم الإضاءة والمنسق الصوتي في إيقاع العرض المسرحي. فقد عملت الإضاءة على تقديم تنويع بين خطاب وآخر، وفي خلق مستويات وعوالم متراكبة أو متجاورة على الخشبة، وكذلك تلعب الأصوات دورها، والموسيقى بشكل خاص لتسمح بتأمل العالم النفسي والوجداني المقترح على المسرح، وربما دفع المتلقي عبر إيقاع المسرحية للتفكير بمضامين العرض، وبما يضمره من مقولات.

هكذا، فإن ثلاث شخصيات تتفرّع من هاملت تخلق كل واحدة منها عالمها ومناخها، وخصوصاً شعريّتها؛ شعرية السُفلي المتمرد، وشعرية الجنساني، وشعرية السياسي، وهذه الشعريات نادرة التقديم على المسرح العربي، فالموضوعات الثلاثة تشكل إلى حدّ ما تابوهات في الثقافة العربية.

تنجح نسخة لينا عسيران في تقديم معادل مسرحي لهذه الشعريات الثلاث، لكن تبقى إشكالية التقبّل مع جمهور لم يتعوّد هذا النوع من المسرح؛ هل يمكن في هذه الوضعية إيصال المتلقي إلى عيش التجربة الوجدانية والذهنية كما يقترحها العرض، أي بعبارة أخرى، جعل تجربة مشاهدة هذا العرض تجربة أيضاً من القسوة، وولوج القاع، وتلمس جماليته خلال دقائق العرض، عملاً بمقولات المنظر المسرحي الفرنسي أنطونين آرتو بجعل العرض المسرحي أشد تأثيراً وتأزيماً للمتلقي. هذا خيار يجعل تقبّل العرض أصعب، لكن ما العمل حين نعلم أن الجمالية التي يقوم عليها النص تكمن في هذه الخصوصيات بالذات.

دلالات
المساهمون