لدى تأمل الشخوص البرونزية المكتنزة للمثّال المصري كمال الفقي (1984)، التي عُرضت مؤخراً في غاليري "الزمالك للفنون" في القاهرة، فإن أكثر ما يستوقف المتفرج خيارات الفنان البصرية، من حيث شكل وهيئة وكتلة هذه الأجساد، فهي ليست خيارات مألوفة لدى النحاتين العرب؛ إنه الجسد البدين الذي طالما جرى تحاشيه جمالياً وفنياً.
يميل الفقي في السلسلة المعنونة بـ "المنظومة" إلى الخلل البادي في توزيع الكتلة، ويزيد عليها مفارقة خفّة الحركة. يبرز الرأس الصغير من جذع ضخم يستحوذ على النصيب الأكبر من الكتلة، بينما يظل الجسد المكتنز خفيفاً محتفظاً برشاقته في كل الأحوال، فهو إما أن يقفز أو يتسلّق أو يرقص أو يقوم بحركات بهلوانية كأنما يُمعن في تأكيد انسيابيته ولياقته.
كانت معظم المعالجات التي قدمها الفنان من قبل أميل إلى توظيف هذه الشخوص كعناصر بنائية ضمن سياق عام؛ نجد منحوتات مماثلة له في حشود يطغى عليها الحس الجماعي.
ففي عمله المعروض في عام 2012 بعنوان "ديموكراسي"، توحّدت المنحوتات مشكّلة سيلاً من البشر يتحركون حول أكوام من الصحف تفوق حجم المنحوتات نفسها، كأنها تشكل حاجزاً مهولاً تدور حوله تلك الجموع التي تتحرك من دون نسق، وتبدو أشبه بالأقزام أو الدمى الصغيرة.
تكرّر الأمر في عمله التجهيزي، الفائز بإحدى جوائز "بينالي الإسكندرية 2014" فتألّف من مجموعة كبيرة من الشخوص المنحوتة بخامة البوليستر الملوّنة والمتفاوتة الحجم.
عكَسَ العمل فكرة القمع والدولة السلطوية، مثّلتها المنحوتة العملاقة التي تنظر باستعلاء إلى هذه الحشود وأجسادها الضئيلة، علماً أن الجميع معلق في الفراغ بخيوط شفافة كالعرائس المتحركة، ومن بينها تلك الدولة/ السلطة/الجسد الضخم والمُهيمن.
في معرضه الأخير هذا، يستمر النحّات في إنتاج المزيد من التماثيل المكتنزة، غير أنه يبدو هذه المرة متجهاً إلى استكشاف الفروق الفردية في ما بينها. تتوزع المنحوتات في فضاء الغاليري فنلتقي من خلال هيئتها تلك ببعض أوهامنا عن أنفسنا؛ قد تتضخم ذواتنا إلى هذا الحد الذي نظن معه أننا قادرون على الفعل أو متحكمون بأقدارنا، لكننا نكتشف في النهاية أننا مجرد أدوات صغيرة في منظمومة.
"المنظومة" عنوان اختاره الفنان لمعرضه، فهل هي منظومة المال والسلطة التي ندور في فلكها؟ ينطلق الفنان هنا من إشكالية يعبّر عنها بسؤال: ما الدور الذي نؤديه نحن في تلك المنظومة؟ إننا نقف بمفردنا، وفق ما يصف الفنان في بيان المعرض، أمام تلك الآلة المهولة من دون أن نتبين كامل الصورة.
نحن مجرد تروس وأدوات صغيرة. يرسم الفقي صورة قاتمة للمشهد، ثم يخفّف من حدّتها بالنزعة الساخرة التي تغلّف أعماله، فهو يواجه تلك الكيانات الضئيلة بحقيقتها من خلال الأوضاع التي يثبتها عليها، ناقصة أحياناً أو مضحكة أو متسلقة أو مغرورة وغافلة أيضاً عن كيانها.
المعالجات الفنية للأشكال التي يصوغها الفنان كمال الفقي في معرضه تبدو شديدة الاختزال، هو يشكّل تكويناته من دون تكلّف. تبدو شخوصه بلا ملامح مؤكَدة، متشابهون في الهيئة، يحمل جميعهم نفس الجسد السمين والرأس النحيل والنظرة الغائمة، كأنهم نسخ مكررة من الأفراد-الحشود بكل نوازعها ونواقصها في سياق محتدم بالدراما.
العرض في مجمله، وإن بدت كل قطعة فيه منفصلة عن الأخرى، يميل إلى تلك النزعة التجهيزية والصورة الجماعية التي سبق أن قدّمها الفنان من حيث طريقة العرض وتوظيف الفراغات واتساق العناصر مع بعضها بعضاً لابتكار صورة بصرية مكتملة وموحّدة الطرح.