حظيت "ملحمة جلجامش" التي اكتُشفت ألواحها الاثني عشر عام 1853، باهتمام الباحثين في حقول معرفية متعدّدة، بسبب مضامينها الميثولوجية التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، والت استُنسخ العديد منها في الفلسفات والأديان اللاحقة وأبرزها الخلق من الطين والطوفان.
في بعد آخر، شكّلت فكرة البحث عن الخلود التي تضمّنتها أقدم ملحمة تتنوّع فيها طرائق السرد، مساحة إغواء للعديد من الكتّاب والفنانين في الشرق والغرب، في توظيف للحظة فلسفية مكثّفة تفيض بالتأويلات للبطل السومري الذي اختلطت في عروقه دماء الآلهة والبشر.
"أسطورة جلجامش" عنوان المحاضرة التي تلقيها الباحثة هيا آل ثاني، مديرة الشؤون المتحفية في "متحف قطر الوطني"، عند الثانية عشرة من ظهر اليوم الأربعاء في "مكتبة قطر الوطنية" بالدوحة وتديرها الأكاديمية شيرين المنشاوي.
تتناول المحاضرة أسطورة الطوفان المذكورة في الملحمة، وكيف وُصفت منطقة الخليج العربي (دلمون) في هذه الأسطورة، وفي الأساطير الرافدية بأنها "الأرض الطاهرة المقدّسة" و"أرض الخلود"، والتي تشكّل معادلاً موضوعياً للفردوس أو جنة عدن في الديانات التوحيدية.
يختلف المتخصّصون في رمزية "أرض دلمون" التي توردها الأسطورة، في كونها مكاناً متحققاً لنفس الحضارة التي قامت في جزيرة البحرين وشرقي شبه الجزيرة العربية، أم أنها مجاز لفيضان وقع في جنوبي بلاد الرافدين حيث أنّ رحلة جلجامش كانت إلى إحدى الجزر في المستنقعات بين نهرَي الفرات ودجلة.
بعيداً عن الاختلاف في المرويات التاريخية، فإن الملحمة وصفت دلمون بأنها "أرض الخلود التي لا يوجد فيها مرض أو موت أو حزن.."، والتي وصلها جلجامش بعد رحلة خاض فيها الكثير من الأهوال والأخطار، ليجد مضيفه أوتو نبتشم في استقباله، مؤكداً له حتمية الفناء بعد أن سرد له قصة الطوفان بقوله "إن الموت قاس لا يرحم/ هل بنينا بيتاً يدوم إلى الأبد؟/ هل ختمنا عقداً إلى الأبد؟/ وهل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى آخر الدهر؟/ الفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس/ حتى يحين أجلها/ ولم يكن دوام وخلود أبداً/ ما أعظم الشبه بين النائم والميت".
حول تلك الأسطورة التي ولّدت معتقدات وأساطير عديدة حولها، تتحدّث آل ثاني عن وصْف السومريين لدلمون الذي تذكرها الملحمة كـ"بلد مغمور بالنور"، وأن "الغراب لا يصيح في دلمون.. والأسود لا تقتل أحداً"، و"لم تكن أي امرأة عجوز تقول: إنني عجوز".