إذا كانت نظرية الأجناس تشتغل على تصنيف النصوص، الأدبية منها بالخصوص، بناء على مكوّناتها ونسيجها، فتضعها في تصنيفات مثل الشعر والرواية والقصة والمقالة والرسالة، فإنها تظلّ قاصرة على إمساك العلاقات التي تتخذها النصوص مع مجالات متباعدة، بل أنها تنجح أحياناً في الربط بينها سواء انتبهت النظريات إلى ذلك أم لا.
ضمن فعاليات الدورة التاسعة من "الملتقى الوطني للأدب التجريبي" الذي اختتم الأحد الماضي في النفيضة بالقرب من مدينة سوسة التونسية، انتظمت ندوة بعنوان "الأدب والفلسفة" شارك فيها كلٌّ من كمال الزغباني وسليم دولة.
وإذا كانت الفلسفة قاسماً مشتركاً بين المحاضريْن كممارسة تأليفية، فإنهما دخلا الأدب من بوّابتين مختلفتين، إذ يكتب الزغباني الرواية (صدر له عملان: "في انتظار الحياة" و"ماكينة السعادة") فيما انهمك دولة في الكتابة الشعرية منذ عقود بعد أن افتتح مسيرته التأليفية بعدد من الإصدارات الفلسفية.
جاءت الورقتان اللتان قدّمتا انعكاساً لهذه التوجّهات، فقد حملت ورقة الزغباني عنوان "التفلسف روائياً" فيما عنون دولة محاضرته بـ"ما وراء التصنيف: حقيقة الفلسفة، حقيقة الشعر في الراهن الحضاري".
في كلمته، توقّف الزعباني بدءاً عند "مصادرة"، والعبارة له، كثيراً ما تلاحق أعماله، إذ ينطلق كثير من قرّائه من كونه يشتغل بالفلسفة أكاديمياً وبالتالي يعتبرون روايته بالضرورة رواية فلسفية. يعقّب الكاتب التونسي قائلاً: "القول في ظاهره إطراء لكنه يحمل أيضاً جانباً سلبياً"، ومن هنا يصنّف التفلسف روائياً بين سيئ وجيّد.
يعرّف صاحب "ماكينة السعادة" الاستعمال السيّئ للتفلسف في الرواية بـ"تحويل النص إلى مجرّد حامل للأفكار أو ناقل للنظريات، ويحدث ذلك في الغالب من خلال تحميله أطروحة أيديولوجية"، وهو هنا يقارن بين مرحلتين في الأدب الروسي الذي فقد عبقريته التي تجلّت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وآخرين منذ أن حاولت الدولة جعل الأدب أداة من أدواتها باستعماله كقناة لتوعية الشعب والسيطرة عليه، وهذه مهمّة سياسية، بالنسبة إلى الزغباني، ولا علاقة لها بالأدب وهو ما يصفه بالقول: "جُعلت الرواية وعاء لمضامين أيديولوجية".
مقابل ذلك، يرى صاحب "ماكينة السعادة" أن "السبيل الأمثل للتفلسف من خلال الرواية أن يصبح النص بؤرة لفكرة فلسفية إلى درجة أنه لا يكون من الممكن أن تثار الإشكالية التي يطرحها النص إلا من داخل البنية السردية"، يوضحّ ذلك بالقول: "هذا النوع من النصوص يثير أسئلة كونية يعبّر عنها الفيلسوف بالنص العقلاني".
يضرب الزغباني مثلاً برواية "دون كيخوته" للكاتب الإسباني ميغيل دي ثربانتس كنموذج لهذا النوع من النصوص، إذ تضعنا البنية السردية للرواية في وضعية مُحيّرة، يصبح فيها الخيال (كتب الفروسية التي كان يقرأها دون كيخوته) المرجع بالنسبة إلى الواقع، وهذا الأخير لا يمثل إلا محاكاة لما يدور في ذهن البطل الروائي. يرى الزغباني أن ثربانتس تقصّد أن يذهب بهذه الوضعية إلى أقصاها بما في ذلك من توليد للإشكاليات.
يعتبر المحاضر أن هذه الرواية كانت تدشيناً للحداثة، وهي لا تقلّ في ذلك عن الكوجيتو الديكارتي الذي تنسب إليه الحداثة عادة، فقد أوصل ثربانتس من خلال الحكاية فكرة مفادها أن "الحقائق ليست قائمة بحدّ ذاتها بل إن الإنسان هو من يبدع الحقائق، وهو قول فلسفي عميق، إلا أنه قيل روائياً".
في مثال آخر، يشير الزغباني إلى استعمال الفلاسفة أنفسهم للرواية ضمن سجالاتهم، كما هو الحال مع رواية "جاك القدري" لـ دنيس ديدرو، وهو عمل واجه به الموسوعي الفرنسي نظرية "الانسجام الكوني" التي طرحها الفيلسوف الألماني لابنيتز، وقد اختار ديدرو الشكل الروائي بدل المقالة العقلانية ليثبت أن هذه النظرية لا تصمد مع التجربة.
في نموذج أخير، تناول صاحب "في انتظار الحياة" الفن الروائي لدوستويفسكي باعتباره طرح أسئلة وجودية دون أن تكون هناك شخصيات ناطقة بحقيقة مركزية، وهو ما سمّاه باختين لاحقاً بالتعدّد الصوتي. يُحسب لصاحب "الجريمة والعقاب" أنه لم يوظّف الرواية لبسط نفوذه الفكري على القارئ وهذا أحد معايير "حسن التفلسف روائياً".
على المستوى العربي، يرى الزغباني أن نجيب محفوظ نجح خلال ما سمّي بـ"المرحلة الذهنية" في التفلسف روائياً حين جعل شخصيات مصرية تطرح على نفسها أسئلة عميقة دون أن نشعر بأن صاحب "ثرثرة فوق النيل" قد جعل من شخصياته مطايا لقول حقيقة فلسفية.
في كلمته التي حملت عنوان "ما وراء التصنيف: حقيقة الفلسفة، حقيقة الشعر في الرهن الحضاري"، عقد سليم دولة مقارنة بين مفهوم الحقيقة ضمن المجالين، إذ إنها تقوم في الفلسفة على مبدأ التطابق. أما في الشعر، فالحقيقة ذاتية وبالتالي فهي غير خاضعة للتطابق. لكن يبقى أن التفلسف داخل الشعر ممكنٌ، فأين يلتقيان؟
يشير صاحب "كتاب السلوان والمنجنيقات" إلى أن "من عناصر التفلسف الاندهاش، لكن هل يقوم الشعر دون الاندهاش هو الآخر، وبشكل أعمّ ألا يندهش الفنانون أيضاً والأطفال والمجانين؟ إذاً فالاندهاش قاسم مشترك بين اللوغوس الفلسفي واللوغوس الإبداعي، لكن من الضروري التفريق بين اندهاش وآخر، فالاندهاش الفلسفي لا يشبه الاندهاش الشعري ولا غيره من الاندهاشات".
هكذا يشير دولة إلى تقاطعات عدة بين الشعر والفكر، على الرغم من الفروقات البارزة بين المجالين واختلافهما في تسمية الأشياء. يتساءل صاحب "تلويحات الوداع": "حين نفتح كتاب العصر ماذا نقرأ؟ كتاب العصر باتت أنباؤه جنائزية"، وهي وضعية يعود منها إلى أسئلة محاضرته، حين يقول: "الشعر والفلسفة يقومان على رغبة في تأسيس بديل، وهذه رغبة ملحة في وقت أصبح فيه البديل السياسي ميؤوساً منه في العالم".