إل سيد.. تجريد على صفحة بيضاء

19 فبراير 2019
(من أعمال إل سيد)
+ الخط -

توالت تجارب الفنّانين العرب منذ منتصف القرن الماضي نحو تخليص الحروفيات من مرجعياتها الدينية أو الشعرية، وتحريرها من بعدها الأيقوني، إذ استعاروا التقنيات والأساليب المستخدمة في التعامل مع اللوحة المعاصرة، بحيث تبدو عملاً فنياً قادراً في تكوينه على حمل معانٍ وثيمات متجددة.

برزت في هذا الاتجاه أسماء عديدة استفادت من دراستها الأكاديمية؛ مثل: حسن المسعودي ونجا المهداوي، واللذين شكّلا مصدراً أساسياً في تعلّم الفنان التونسي الفرنسي فوزي الخليفي، الملقّب بـ إل سيد (1981) فنون الخط العربي، لكنه قرّر الذهاب في مساره المختلف.

تقوم رؤية الفنان، كما عبّر عنها في أكثر من لقاء، على "كيفية استخدام الفن لتغيير مفاهيم الناس والتواصل معهم"، لذلك كانت الجداريات وفنون الشارع أقرب الأشكال إلى نفسه بالصيغة الأميركية التي قدّمها الفنّان جيفري ديتش في ثمانينيات القرن العشرين، حين مزج ين الغرافيتي والخط، ضمن ما عُرف بـ"الكاليغرافيتي".

من المعرضكاليغرافيتي إل سيد بدا لافتاً مع ظهور الأحرف العربية على جدران ذات مساحة كبيرة، والتي ربما لا يمكن تخيّل أي صلة لها بالفن في الحياة العربية التي كان الخط يُرسم فيها على هذا النحو في سياق الدعاية والإعلان، والذي في الغالب لا يراعي أية ذائقة جمالية، أو كعبث يرسمه المارّة.

"صفحة بيضاء" عنوان معرضه الجديد الذي يتواصل في "لزينك غاليري" بلندن حتى التاسع من آذار/ مارس المقبل، والذي يضمّ مجموعة جديدة من أعماله الفنية مستوحاة من تنظيرات للفيلسوف البريطاني جون لوك (1632 - 1704) تحت العنوان ذاته.

الصفحة البيضاء لدى لوك تتمحور حول فكرة أن الأفراد يولدون دون معرفة عقلية سابقة، ولذلك فإن كل المعرفة تأتي عن طريق التجربة أو الإدراك، والتي يترجمها إل سيد في أعماله من أجل خلخلة الآراء النمطية عن الثقافة العربية لدى المتلقي الغربي.

يعكس المعرض رؤية فنية حديثة تستند إلى أسس نظرية وبحث معمق في ماهية الخط العربي، مستخدماً الأكريليك على قطع من القماش في محاولة لاختبار القيمة الرمزية للغة، ومعانيها المتجسدة في الكلمات كنتاج ثري، حيث تُكتب الكلمات غير مكتملة، يحجب ظهورها بشكل واضح، في إشارة إلى التفكير من دون أحكام مسبقة.

يعتمد إل سيد في معرضه، وهو الأول له في لندن، على انحناءة الحرف كلازمة يبني فيها لوحاته، فيبرز في إحدى اللوحات هذه التدفق من الحروف المتشابكة كنهر يجري بين ضفتين متباينتين في اللون، في إشارة إلى اللغة كأداة للتفكير والتواصل معاً، أو يظهر في لوحة أخرى كجسد متموّج أو ظلّ الجسد المعتم فوق فضاء الحروف المشرق بألوانه، فكأن الكتابة أو الأبجدية هي المعبّر الأول والنهائي عن الإنسان.

طبقات من التجريد الكاليغرافي هي جوهر هذا المشروع الذي عمل عليه لأكثر من عامين، خلافاً لجميع أعماله السابقة التي كانت الحروف تشكّل كلمات محدّدة ومفهومة فيها، بينما هي اليوم معادل موضوعي لتلك الصفحة البيضاء التي لا ينطبع فيها سوى ما نجرّبه أو ندرك ماهيته.

المساهمون