معز ماجد.. تحويل الحدث إلى سؤال جمالي

09 فبراير 2020
(معز ماجد، العربي الجديد)
+ الخط -

لم يكن الشعر التونسي، في يوم من الأيّام، متجانس الأصوات، متشابه التجارب، متقارب الأساليب؛ فهو هذا التموّج والتباين والاختلاف، بعضه ظلّ مشدوداً إلى التراث يسترفد أصوله ويعيد إنتاج عناصره، وبعضه أرهفَ السمع للحظة الراهنة وسعى إلى تأسيس شكل من الكتابة جديد، بينما ظلّ أكثره مرتبطاً بأكثر من زمن، بأكثر من مرجعيّة.

وضمن هذا القانون، قانون التعدّد والتنوّع، تبرز تجربة معز ماجد (1973) الشعرية. هذه التجربة تتبدّى مختلفةً عن تجارب الشعراء التونسيّين لغةً وطرائقَ أداء؛ فهذا الشاعر يكتب باللغة الفرنسية، يستدعي، في نصوصه، التراث الإنساني عامّةً، والتراث الفرنسي على وجه الخصوص، يحاور في كتاباته شعراء الحداثة الأوروبيّين. لكن هذا الاختلاف لا ينفي الوشائج العميقة التي تجمعه بالشعر التونسي المكتوب بالعربية، فقصائد ماجد ظلّت تجترح الأسئلة نفسها، وتحمل، على اختلاف اللغة، هواجسه ورؤاه.

في هذا السياق نقرأ مجموعته الجديدة المنقولة إلى اللسان العربي: "غير بعيد من هنا" (دار الأهلية، 2019)، وهي مجموعة تضمّ ثلاثة كتب شعرية: الأوّل: "غير بعيد من هنا " (ترجمة محمد ناصر المولهي) ويضمّ عدداً من القصائد القصيرة، أمّا الثاني فعنوانه "أناشيد الضفّة الأُخرى" (ترجمة محمد الغزي) ويضمّ قصيدة طويلة، والثالث هو "قصائد شجرة الكرز المزهرة" (ترجمة الشاعر نفسه) ويضمّ قصائد متفاوتة الطول.

الكتابان الشعريان الأوّل والثالث ينطويان على نبرة ذاتية، الشعر فيهما نقلٌ للأحاسيس من وجود داخلي، غامض، مشوّش، إلى وجود خارجي واضح جليّ يتحكّم فيه نظام دقيق هو نظام اللّغة؛ أي أنَّ الشّعر، في هذين الكتابين، انتقالٌ من لغة إلى أخرى، اللّغة الأولى هي لغة المشاعر والأحاسيس، أمّا الثانية فهي لغة الكلام والإيقاع. ويترتّب على ذلك أنّ الشعر ليس الانفعال فحسب، وإنّما هو طريقةٌ مخصوصة في التعبير عن ذلك الانفعال. ولمّا كان الانفعال حالةً ذاتية وجب أن تكون طريقةُ التعبير عنه طريقة ذاتيّة أيضاً، أي وجب أن يكون الشعر قادراً على الإعلان عن "تفرّده وتميُّزه".

الشعر هنا يثوي عميقاً وبعيداً في مطاوي النفس، يغذّيه حنين إلى زمن آفل أو شوق إلى زمن آت. ولما كانت الذات هي وطن الشعر وبيته فإن القصيدة تحوّلت، في هذين الكتابين، إلى لحظة بوح واعتراف. الكلمات فيها تستمد من هذا الوطن القصي شحنتها العاطفية وقوتها الدلالية:

"أتذكّر ضوءاً صيفيّاً
يداعب جفنيّ
وشمساً آفلة
أنا المسافر جالساً
على ساعد أبي
وهدير الأمواج يأتي من خلفي".

إنّ المتأمّل في شعر ماجد يلحظ أنّه ينطوي على حوارين اثنين: حوار يعقده مع القصيدة الغربيّة، وعلى وجه الخصوص، القصيدة الفرنسيّة الحديثة، وحوار ثان يعقده مع القصيدة العربية. أمّا حواره مع القصيدة الحديثة فيتجلّى في طبيعة الصور المستخدمة وفي بناء القصيدة وفي استدعاء الأقنعة والرموز التي تنهض بوظيفة المعادل الموضوعي. وأمّا حوارها مع القصيدة العربية فيتمثّل في الجدل الذي تعقده مع الذاكرة والتراث؛ فالشعر، لدى ماجد، ليس تعبيراً عن حقائق الروح فحسب، وإنّما هو تعبير عن حقائق الذاكرة أيضاً.

قد لا يحتاج القارئ إلى جهد كبير ليدرك أنّ المجموعة الثانية "أغاني الضفة الأخرى" ليست إلاّ نشيداً طويلاً يزجيه الشاعر إلى الثورة التونسية، مستخدماً أسلوباً ملحميّاً يُذكّر بـ سان جون بيرس في جزالة لفظه وقوّة صوره ووضوح إيقاعه.

إنّ الشعر سليل الحياة. هذا ما تقوله قصيدة معز ماجد وكون الشعر سليل الحياة، فهذا يعني أنّ الشعر يسهم في تحرير هذه الحياة، في نقلها من مجال الضرورة إلى مجال الحريّة:

"عندما نُفخ في الصور
حاضرين كنّا فوق حقل الحصاد
هل أخطأنا حين عجّلنا بسقوط جذعٍ من الخشب العاري
أيتها الأميرة ديدون
يا أمّي وأختي وابنتي
لعلّك كنت تبكين وأنت تريننا نُباد".

والواقع أن الشاعر التونسي ظلّ منذ أبي القاسم الشابي شديد الانهماك في الواقع، والشعرُ عنده ليس تعبيراً عن حقائق النفس فحسب، بل هو تعبير عن حقائق الواقع وقد امتزجت بحقائق النفس. فالإحساس بالخلل ينتاب كلَّ شيء بإيقاع متواتر في مجاميع شعراء التونسيّين. لهذا تتحوّل الكتابة إلى طريقة نقد للحياة، محاولة لتقويم ما اختلّ من أمرها.

هذه المجموعة تؤكّد أنّ شعر ماجد شديد الارتباط بالواقع الاجتماعي التونسي يشهد له حيناً وعليه حيناً آخر، لكنّ هذه الوظيفة المرجعية، كما يسمّيها النقاد المعاصرون، لا تنفي عن هذا الشعر وظيفته الإنشائية وهي الوظيفة التي تؤمّن له أدبيّته وتخرجه مخرجاً فنّياً. بعبارة أخرى، نقول إنّ علاقة هذا الشعر بالواقع ليست علاقة كنائية، أي علاقة تجاور وإرداف، وإنّما هي علاقة استعاريّة أي علاقة تفاعل وحوار. النصّ الكنائي يظلّ على علاقة وطيدة بالمرجع موصولاً به وصل تماسّ وترابط، أمّا النصّ الاستعاريّ فإنّه ينفصل عن المرجع ليؤسّس كيانه المستقلّ وهويّته الخاصّة.

لا شكّ في أنّ الثورة قد وشمت ذاكرة الأدب التونسي وتركت في جسده أثراً لا يُمكن محوه أو التهوين من شأنه. غير أنّ الكتّاب والشعراء اختلفوا في تعاطيهم مع هذا الحدث اختلافاً بيّناً. أغلبهم عاد إلى الأدب الملتزم ينفخ الروح في جسده الميّت متمحّلاً حججاً شتّى لتبرير استعادته.

ونقصد بالأدب الملتزم الأدب الذي يستخدم اللغة المتعدّية تحيل على الخارج النصي ومنه تستمد شرعيّتها وشعريّتها. فإذا كان الأغلب الأعمّ من الكتّاب والشعراء ارتدّوا إلى هذا الأدب تحمّساً واستئناساً بأشكال جاهزة للتعبير عن احتفائهم بالثورة وتمجيدهم لرموزها، فإنّ القليل منهم ومن ضمنهم معز ماجد قد حاول أن يحوّل حدث الثورة إلى سؤال فنّي، إلى هاجس جماليّ.

لقد فهم أنّ الشعر ليس الانفعال وإنما هو تحويل الانفعال إلى شكل، أي إلى طريقة في القول مخصوصة، أي إلى كتابة على غير مثال سابق؛ فالفن مثل الحياة لا يتجلّى على هيئة واحدة مرّتَين، كل تجل يذهب بشكل قديم يأتي بشكل جديد.


* شاعر وناقد تونسي

المساهمون