بلاد الرشيد التعيسة

18 مايو 2017
الحروب بأشكالها أحدثت مزيداً من الشروخ (يونس كيليس/ الأناضول)
+ الخط -
رغم معاناة بغداد فقد كانت مهيمنة على ما سواها من مدن عراقية. كانت المناطق والمدن في المحافظات مهملة أو شبه مهملة دوماً، وهو ما قاد الى تضخم في سكان العاصمة وتراجع في باقي المدن، سواء كانت مركز محافظة أو ناحية، وبالطبع فحال الأرياف أكثر بؤساً.

الخلل في العراق مركب مثله مثل باقي الدول والأقطار العربية، بمعنى أنه موجود قبل أن تبلغ الأزمات ما بلغته من تدمير مأساوي. التراجيديا العربية الراهنة ذات جذور راسخة يغذيها دوماً غياب العدالة الاجتماعية والتخطيط وقمع الحريات وتغوّل السلطة على حساب المجتمع. ومقابل أعداد قليلة من المنتفعين المحيطين بصاحب السلطة، هناك جموع كبرى تفتقد الحدود الدنيا.

الحروب بأشكالها أحدثت مزيداً من الشروخ، والأقسى بينها بالتأكيد كانت الداخلية. يحدث الآن في العراق شبه فرز طائفي مناطقي. المؤسسات السياسية الموحدة لا تغطي على الأمر الانقسامي الراهن. مقابل الهيمنة هناك طوائف ومناطق إما أنها تعتبر أنه لا محل لها، أو مغبونة، أو تتدبر أمورها بنفسها. ينطبق الأول على الأقليات المسيحية والأيزيدية والصابئية، والغبن على السُنة، ويتدبّر الأكراد الأمور بأنفسهم. والحصيلة أننا بين ثلاثة عراقات عملياً. عراق شيعي يدار فعلياً من جانب إيران وترفضه قوى عراقية شيعية لا يستهان بوزنها، وعراق سني يتعرض للتهميش ما أدى الى نشوء داعش وسلالاتها السابقة واللاحقة، وعراق كردي يتصرّف على أساس أن كيانه قائم وعليه ترسيخه بضم ما يتيسر له من مساحات إضافية من حساب الآخرين.

والمحاصصة في الحكم على أسس طائفية كانت لها مضاعفات على الصعيد الديموغرافي. لا بد من الإشارة إلى أن العراق يعاني من هجرة ولجوء أكثر من 4 ملايين نسمة من سكانه. النازحون قد يصلون إلى ضعف العدد السابق، ويعاني هؤلاء من ظروف حياة أشد قساوة من التصوّر، فمعظمهم يقيم في خيام مرتجلة وسط لهيب الصيف وقساوة الشتاء. يفتقدون المدرسة والمستوصف والطريق والغذاء وإمكانية العثور على العمل لتأمين رغيف الخبز وشربة الماء لأسرهم. تتكامل الكارثة مع مضاعفات هجرة الكفاءات ومن ضمنهم الأطباء والمهندسون والمحامون وأساتذة الجامعات. ويضاف الى ذلك صرف موازنات الدولة على "المجهود الحربي" لصالح الجيش والحشد الشعبي بعد شرعنته من جهة، وعلى النهب الذي يعبّر عن حال مستشرية من الفساد من جهة ثانية.

إذن مدن تفقد شخصيتها تباعاً ومعها التوازن الحضري والبيئي وزيادات سكانية تجد تصريفها في بازار الموت المفتوح وفي التهجير واللجوء، ومشكلات تتفاقم دون حد أدنى من الحلول أو المعالجة. أما الحروب المستعرة خلافاً للأوهام السائدة فستولّد مزيداً من الحروب التي تأكل الأخضر واليابس.

*أستاذ جامعي

المساهمون