سمير غصن.. أستاذ الفلسفة الذي قاوم الشقاء بالطبيعة

25 ابريل 2015
أفصح لي الوادي أن المُعالج النفسي هو النهر(إيفا رعيدي)
+ الخط -
في قاعة الاستراحة الخاصة بالأساتذة، يُخبر أستاذ الرياضيات الشاب زميله أن الحصة التي أعطاها للتوّ ربما تكون الأسوأ في تاريخه المهني القصير. يقول إنه لم يتوقف عن النظر إلى ساعة يده التي بدت عقاربها الرفيعة وكأنها لا تتحرك أبداً. الأساتذة يتعبون أيضاً. وعندما ينظرون إلى ساعات أيديهم ويخالهم التلاميذ يحسبون الوقت من أجل حسن إدارة الحصة، يكونون في الحقيقة، وفي أحيان كثيرة، يقيسون مدى قدرتهم على التحمّل بعد، حالهم حال التلاميذ.

لكن لتلاميذ الأستاذ سمير غصن حكاية أُخرى. يفرحُ الجميع عندما يحين موعد حصّته: التلاميذ غير المعنيّين بالفلسفة، وأولئك الذين لا يحبون أيّاً من العلوم أصلاً، وغيرهم من الذين يأتون إلى المدرسة غصباً عنهم ويحتسبون الوقت بالدقائق والثواني إلى أن يحين موعد العودة إلى المنزل.

يقف أستاذ الفلسفة في منتصف القاعة. نادراً ما يحتاج إلى كرسي أو مكتب. يختار أن يبقى واقفاً. يشرحُ نظرية لهنري برغسون عن الذاكرة، ويجعلك تصدّق أنه من أكبر المعجبين بها (النظرية)، لكنه سرعان ما ينتقل إلى نقدها، فيبدو أحد أشرس المعارضين له. ودائماً ما يصل إلى نتيجة مفادها أن "معظم الفلاسفة مفيدون في الجزء الأول من حياتهم المهنيّة، ومضرّون في الجزء الثاني منها". ثم يغمض عينيه. وفيما يخال التلاميذ أنه يريح نظره، يقول سمير إنه "يتعب فيغمض عينيه، وينقل حواسه إلى وادي قنّوبين".

يقع وادي قنوبين، المعروف أيضاً بوادي قاديشا أو الوادي المقدس، في قضاء بشرّي (شمال لبنان). لكن الأستاذ سمير، ابن المنطقة، لم يعرف الوادي إلا قبل 12 عاماً فقط، في رحلة أصرّ أصدقاؤه على أن يرافقهم فيها. "كان القمر بدراً كاملاً، وكانت الرحلة عبارة عن سير طويل بعد منتصف الليل. شعرت أن الوادي يأخذني وأنني أتلاشى". بهذه الكلمات القليلة يتحدث غصن عن الرحلة التي غيّرته. وبالفعل، غيّر وادي قنوبين كل ما كان يعرفه الأستاذ سابقاً. "فجأة، أفصح لي الوادي أن المُعالج النفسي هو النهر، وليس الشخص المعالج كما ظننت دوماً". في زياراته الأسبوعية إلى الوادي، يجلس الأستاذ ساعتين على الأقل قرب النهر، "عندما أستمع إلى النهر، وأمتلئ به، أو بالأحرى يمتلئ بي، أنتقل إلى عالم مختلف كلياً. حتى أنني بعد مرور بعض الوقت، أستطيع سماع صلوات بالسريانية".

الطبيعة، بنظر أستاذ الفلسفة، هي الوسيط، على غرار المعالج. يقول إن النهر صالَحه مع نفسه، ما جعله يعتقد أن تعاستنا كبشر سببها انقطاع علاقتنا بالطبيعة. يكرر الفكرة نفسها أكثر من مرة، كما يفعل في حصص الفلسفة للتأكيد على نقطة مهمة: "الشقاء بالأساس هو الانسلاخ عن الطبيعة. أما الجنة، فليست سوى فكرة مجردة عن انصهار الإنسان مع الطبيعة".

من خلال اكتشاف الأستاذ والفريق الذي يرافقه في رحلاته للمغاور وآثار أخرى، أصبحت لديه قناعة راسخة بأن كل المخزون الروحي الذي وجد في وادي قنوبين يوماً ما، ما زال حاضراً اليوم. "كل الصلوات التي تمّت تلاوتها في الوادي، وأشكال التصوف العديدة التي عرفها المكان، جعلتني أسمّيه ذاكرة مكان. فكل ما مرّ على الوادي هو عالق اليوم في الماء والأشجار والنسيم".

بحسب معلومات الأستاذ سمير، سكن الوادي نحو 800 ناسك وحبيس في فترة زمنية واحدة. "حقيقة كهذه كفيلة وحدها بأن يستحق وادي قنوبين لقب الوادي المقدس أو وادي القديسين". يضيف: "هؤلاء النساك هم من سكان الوادي الحاليين أو الأبديين. الروح لا تموت، وأغلب الظن أنها تعود". ثم يتابع ضاحكاً: "أعتقد أن الأشخاص الذين يتّصفون بالرقيّ هم أولئك الذين تكرّر مجيئهم إلى هذا العالم".

لا يشك سمير غصن للحظة واحدة أنه لا يشبه سمير الذي كان قبل قنّوبين. يتحدث عن تحوّل جذري: "قنوبين هدّأت من رغبتي في تغيير العالم وتغيير الناس. لم أعد أحاول أن أغيّر أي كان أو أن أوصل الحقيقة عبر الفلسفة. أشعر أيضاً أنني أصبحت متسامحاً أكثر مع طلابي. أعترف بأنني لم أعد متحمساً للتعليم كما في السابق، لكنني لا أجد ضيراً في هذا". أما على الصعيد الروحي، فلا يعتبر الأستاذ سمير أنه كان يتمتع ببعد روحي حقيقي. "حتى أنني كنت بالكاد مؤمن، أما اليوم فأنا مؤمن بقوة كونية لا أستطيع تحديدها، ربما الله هو الطبيعة نفسها".

يمكن لـ"ساكن الوادي" أن يتحدث مطولاً عن قنوبين، غير أن مشهداً واحداً يمكن من خلاله أن يختصر سحر قاديشا، "كان بعض نساك الوادي يشعلون كمية كبيرة من البخور التي ترتفع تدريجياً من عمق الأرض المقدسة، لتلتقي في الأعلى مع الغيم والضباب. وما إن تعبق الرائحة في الضيع المجاورة، حتى يهرع الأهالي إلى قرع أجراس الكنائس، لترافق صلوات النساك".
دلالات
المساهمون