المكتبة الوطنية ونموذج ما بعد الحرب

09 نوفمبر 2018
مراحل عديدة حاسمة مرّ بها لبنان (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
لم تفتح المكتبة الوطنية أبوابها بعد، في لبنان، ولم يُعلن حتى تاريخه عن موعد محدد لحفل الافتتاح، مع ذلك، فالعمل في المشروع قائم على قدم وساق، ومن المنتظر أن يشهد النور بعد سنوات طويلة من الإعداد والتحضير، ولهذا قصة يجب أن تروى في مجال رصد ما تكلفه الحروب، مما لا يجري حصره في سياق جرد الخسائر التي غالباً ما تقتصر على إحصاء ما يصيب قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات العامة من شبكات المياه والكهرباء والهاتف وما شابه من مرافق. ومن المعلوم أنّ الحرب في لبنان قد توقفت بعد الوصول إلى اتفاق الطائف وتعديل الدستور في العام 1990، أي منذ ما يقرب من ثلاثة عقود.

المكتبة الوطنية كان موقعها في الأصل في مبنى مجلس النواب بساحة النجمة في الوسط التجاري، إذ كانت تشغل حيزاً مقبولاً من البناء ولها مدخل جانبي. تزين قاعة القراءة صور رجالات النهضة من الأدباء والشعراء والصحافيين والفنانين. المهم أنّ المكتبة داخل مجلس النواب، والمجلس داخل الوسط التجاري. وعندما انهمرت القذائف وتحولت المنطقة إلى جبهة حرب ملتهبة في حرب السنتين (1975- 1976) بات متعذراً الوصول إلى أيّ منهما، وبالطبع أصيبا بأضرار فادحة. انتقل مجلس النواب إلى قصر منصور في منطقة المتحف بين "البيروتين" الشرقية والغربية، وبدأ البحث عن مقر للمكتبة الوطنية. وبعد تفتيش عُثر على مستقر لها في مبنى قصر الأونيسكو. الذين أشرفوا على الانتقال وجدوا الكتب والصحف والوثائق وجملة المواد المتوافرة مبعثرة، فقاموا بجمعها ووضعوها في صناديق من الكرتون المقوى ونقلوها. لكنّ "لعنة الحرب" أبت إلا أن تلاحقها، فبعد فترة وجيزة من الانتقال تحولت منطقة الأونيسكو إلى جبهة قصف مدفعي مشتعلة، فأصيب المبنى مباشرة وانهار جزء من سقف البناء حيث الكتب في الصناديق. وهكذا أخذت تتسرب مياه الأمطار من السقف وتنزل على الصناديق فتبللت بالماء وتلف قسم لا يستهان به منها. وبالرغم من هذا ظلت في مكانها بالنظر إلى تعذر إيجاد مأوى جديد. طوال سنوات لم يسأل أحد عن الكتب والمخطوطات والصحف والوثائق حتى أصاب الكثير منها الاهتراء بنسب متباينة.

لم يكن في الوارد عودة المكتبة الوطنية إلى مبنى البرلمان الذي أعيد ترميمه، فعاد البحث ثانية، ولمّا تم بناء مجمع الحدث للجامعة اللبنانية وانتقلت إليه كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية التي كانت تشغل مبنى تراثياً في الصنائع، تقرر أن يتحول البناء هذا إلى مستقر للمكتبة الوطنية، لكن البناء يحتاج إلى عملية تأهيل كي يقوم بدوره الجديد. وإعادة التأهيل تتطلب أموالاً غير متوافرة لدى الدولة، خصوصاً أنّ موازنة وزارة الثقافة هي دائماً الأقل في الحصة من موازنات الحكومات. بدأ البحث عن مصدر تمويل وكان المستجيب الأول هو الاتحاد الأوروبي، وخلال الأعوام التي امتدت بين 2003 و2007 جرت الكثير من الأعمال لكنّها لم تصل إلى الجهوزية. ولما توقف التمويل الأول شرع المسؤولون يبحثون عن مصدر جديد، فقدم أمير دولة قطر في حينه، الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، مبلغ 25 مليون دولار لهذا الغرض. واستعاد العمل دورانه في مبنى متوارث عن المرحلة العثمانية عندما تأسس كمدرسة للصنائع والمهن.




يشرف على المشروع وزير الثقافة الذي تتبع المكتبة الوطنية لوصايته مع لجنة نهوض مؤلفة من ستة أعضاء من بينهم مدير عام وزارة الثقافة الذي ينوب عن الوزير، بالإضافة إلى منسق. المكتبة الوطنية في لبنان ورحلة بعثها نموذج عن الصعوبات التي تتسبب بها الحروب على المكتبات العامة.

*باحث وأستاذ جامعي
دلالات
المساهمون