سوف أعود وأحضر زفافكِ

09 اغسطس 2015
وترحلان... (رسم: أنس عوض)
+ الخط -

تحمل ميلاني دبّها المحشوّ بين ذراعَيها، وتجلس بين الحقائب والأكياس المكدّسة في سيارة يُمنى. تلتصق بمالكا التي شهدت ولادتها قبل خمسة أعوام، وتلوذ بصمت لم يعتده منها أحد. كم من مرّة رجاها والداها أن تنقطع عن الكلام، ولو لدقائق. أما اليوم، فالوضع مختلف. حتى عيناها السوداوان الواسعتان، تائهتان.

قبل دقائق، عندما أراد صاحب البيت وداعها، تقدّمت الصغيرة صوبه بخطوات ميكانيكيّة. حضنها وقبّل رأسها قائلاً إن "الجميع سوف يفتقدك". دمعت عيناه، وراح يخبر يمنى بأن "فرجينيا ما في منها. كانت تجهد لحلّ مشكلات الجميع..." قبل أن يغصّ هذا الستينيّ.

فرجينيا، والدة ميلاني، امرأة استثنائيّة بالفعل. كلّ مَن عرفها يجزم بأنها فَطِنة وأهلٌ للثقة ومبادِرة ونشيطة بامتياز. لكن ذكاءها واستثنائيّتها لم يمنعاها من الوقوع ضحيّة كفيلها. هو كان يستفيد منها كلما أرادت تجديد إقامتها في لبنان، إلى أن انتهى بها الأمر في مايو/ أيار الماضي في مركز الأمن العام لتوقيف الأجانب في بيروت، تحت الأرض.

في كلّ عام، عند تجديد إقامتها، كانت المرأة الشابة (35 عاماً) تعيد توقيع المستندات ذاتها، من دون أن تقرأ ما تنصّ عليه. كيف تفعل، وهي لا تلمّ بالحرف العربيّ. أما كفيلها، فلم يُعلمها في يوم بأنه لم يعد قادراً على كفالتها. كيف يفعل، وهو يتقاضى منها مبلغاً سنوياً ليس بقليل.

قبل نحو 17 عاماً عندما التحقت فرجينيا بوالدها الذي كان يؤمّن رزق عائلته في لبنان، ظنّت أن هذه فرصتها لتأسيس حياة مستقرّة. وبعد بضع سنوات، عندما تزوّجت وأنجبت ميلاني، اتخذت قرارها بالبقاء إلى حين تأمين حياة كريمة لوحيدتها، حياة لم تحصل عليها هي. والدها أحبّها كثيراً، إلا أنه عجز عن توفير "الأفضل" لها. هي كانت سنده في لبنان، وقد عاونته في تأمين متطلبات العائلة في سريلانكا. حتى بعد زواجها، ظلّت تفعل.

قبل نحو أربعة أعوام، اضطر الوالد إلى العودة إلى الوطن، وقد تدهورت حال نظره. بقيت فرجينيا تكافح لوحدها. إلى جانب التزاماتها الكثيرة، راحت تقوم بعمله. هي بحاجة إلى جمع المال لضمان متابعة الصغيرة دراستها، وما يتقاضاه زوجها ليس بكثير.

قبل أيام، أوصل أنوريه ابنته ميلاني إلى مركز التوقيف، تحت الأرض. هي تُرحّل مع والدتها بعد ساعات. وقف من الجهة الثانية، ينتظر خروجهما ويبكي. سيارة الترحيلات البيضاء، جاهزة لتقلّهما إلى المطار. لم يخجل من ذرف دموعه، أمام عناصر قوى الأمن الذين سألوا "من هذا؟"، بنبرة تهكميّة. بدوره سأل "لماذا لا يسمحون لنا باصطحاب ميلاني إلى المطار؟ هناك تلتحق بفرجينيا. لا يمكن أن تركب في هذه..."، ويشير إلى سيارة الترحيلات ويجهش بالبكاء.

من بوابة مركز الأمن العام، تخرج فرجينيا مكبّلة اليدَين. أما ميلاني، فتتمسّك بثيابها كأنها تخاف أن يبعدوها عنها من جديد. ينهار أنوريه. تنطلق سيارة الترحيلات، وبسرعة تتبعها يمنى بسيارتها وهي تمسح دموعها. لا بدّ من أن تبقى متماسكة أمام أنوريه ومالكا. وتخونها دموعها من جديد. لم تتخيّل في يوم أن تُعامَل فرجينيا كالمجرمين. هي ضحيّة كفيل جشع ونظام كفالة مجحف بحقّ العمّال الأجانب. كان من المفترض أن يُسجَن الكفيل الذي تحايل عليها، وليس هي.

من وجهة نظر قانونيّة، هي أخلّت بالشروط التي سبق ووقّعت عليها، عندما أقامت في غير محلّ سكن كفيلها. شروط كُتبت باللغة العربيّة. هي وإن تحدّثت العربيّة بطلاقة، إلا أنها لم تفكّ رموزها في يوم. كانت تأمل أن تعلّمها ميلاني ذلك. الصغيرة تقصد مدرسة ترتكز في تعليمها على العربيّة والفرنسيّة والإنجليزيّة. لكن آمالها تلاشت.

في المطار، خلف الحاجز الفاصل المليء بالثقوب في سيارة الترحيلات، تحاول فرجينيا الحفاظ على ابتسامتها المعهودة، بالرغم من دموعها. تقترب يمنى وتلقي كفّها على الحاجز، بموازاة راحة يد فرجينيا. تبكيان. "أحبّك. يجب أن تتماسكي من أجل ميلاني". تهزّ برأسها. "سُجنتُ شهرَين من دون جدوى". تمسح دموعها بكمّ قميصها قائلة "لا تظنّي أنني خلفت بوعدي ورحلت قبل أن تتزوّجي. سوف أعود وأحضر زفافك. يلا.. ابحثي عن عريس". تبتسم يمنى. "أنا في انتظارك. لا تقلقي".

يقترب عناصر الأمن العام ويخلون سبيل فرجينيا، فتتوجّه إلى بهو المطار. تحضنها يمنى وتبكيان من جديد، قبل أن تبتعد الأخيرة مفسحة المجال أمام مواطنات لها أتينَ لوداعها. هي مُفْضِلة عليهنّ جميعاً. بدوره يقترب أنوريه ويطوّق زوجته بذراعه ويصطحبها إلى الداخل.

هذه عائلة أخرى تتشتّت. ميلاني لن تتمكّن من دخول لبنان مجدداً، طالما هي قاصر. فرجينيا بحسب القانون، مضطرة إلى الانتظار ثلاثة أعوام قبل العودة. أما أنوريه الذي ما زال يحتفظ بعمله، فلا يستطيع إخفاء شعوره بالعجز. هو لطالما اعتمد على زوجته. هي المدبّرة.. مدبّرة شؤون عائلتها الصغيرة، ومدبّرة منازل مستخدميها. لطالما كانت أكثر من مجرّد عاملة تنظيفات.

قبل أن تتوجّه مع والدتها نحو نقطة التفتيش، خرجت ميلاني عن صمتها وهمست في أذن مالكا "لا تبكي. عندما أكبر سوف أعود إلى لبنان، وأراكِ من جديد".

اقرأ أيضاً: نظام الكفالة لا يرحم
المساهمون