مآتم الأردن نكبة مالية

11 مايو 2019
بكاء على من رحلوا (عبد الناصر الصديق/ الأناضول)
+ الخط -
باتت بيوت العزاء في الأردن تستنزف أهل المتوفى من الناحية المادية، بسبب التقاليد الاجتماعية التي تزيد أحياناً عن المعدل المقبول، ما يصفه البعض بـ "النفاق الاجتماعي". والنتيجة هي إرهاق أهل المتوفى لتحل بهم مصيبة أخرى تضاف إلى مصيبتهم. وحوّلت التقاليد الاجتماعية في الأردن فاجعة الموت إلى مناسبة لإهدار المال، حين يصبح أهالي الموتى رهائن يسعون إلى إرضاء الآخرين، ويدفعون لأبناء المجتمع المحلي ثمن صمتهم، خوفاً من الحديث عن التقصير وعدم إكرام الميت، ليبذلوا في كثير من الأحيان الغالي والنفيس لجلب كافة مستلزمات متطلبات العزاء، الضروري منها والكماليات.

ولعلّ الكوميديا السوداء التي تنتشر بين المواطنين تلخص واقع المآتم في الأردن. إحدى النكات تقول إن مريضاً عجز أهله عن توفير مبلغ 500 دينار (700 دولار) كان يحتاجها للعلاج في المستشفى توفي، ما كلّف أهل المريض 5 آلاف دينار (7 آلاف دولار) لإقامة مراسم العزاء. وتدفع إقامة بيوت العزاء معظم الأردنيين، خصوصاً ذوي الدخل المحدود، إلى الاستدانة، لتوفير التكاليف الباهظة لمراسم العزاء، والتي تبلغ نحو خمسة آلاف دينار أردني (7 آلاف دولار)، في حين تتبنّى بعض العائلات مساعدة عائلة الفقيد لتخفيف العبء المالي عليهم. ويقول محمد لـ "العربي الجديد": "التقاليد الاجتماعية ترهق أهل المتوفى. أنت مضطر إلى حجز صيوان (خيمة) تراوح كلفتها ما بين ألف دينار (1400 دولار) و1500 دينار (2100 دولار) على الأقل لثلاثة أيام هي فترة العزاء، إضافة إلى تقديم الطعام على مدى ثلاثة أيام، والمنسف (وجبة تقليدية مكونة من اللحم والأرز واللبن)". ويقدر أن كلفة الطعام لا تقل عن ثلاثة آلاف دينار (نحو 4 آلاف دولار). ويشير إلى وجود مصاريف أخرى، منها خدمات التجهيز والدفن وشراء القبر.

ويوضح: "ليس الجميع قادرين على دفع مبالغ إضافية"، مشيراً إلى أنه وشقيقيه اقتسموا تكاليف العزاء. ويسأل: "كيف للموظف الذي لا يتجاوز دخله 400 دينار (560 دولاراً) أن يوفر تلك المبالغ من أجل مراسم عزاء فرضتها التقاليد الاجتماعية؟". يضيف أنه يعاني بسبب الأوضاع الاقتصادية، وراتبه لا يكفيه حال غالبية الأردنيين. "فكيف له أن يوفر نحو 1500 دينار (2100 دولار) للعزاء؟".



أما أبو علي الذي فقد والدته قبل أربعة أشهر، يقول لـ "العربي الجديد" إن العزاء كلفه نحو ستة آلاف دينار (نحو 8 آلاف و400 دولار) ما بين الدفن والصيوان واستئجار كراسي وإضاءة ومياه وولائم وتمور. يضيف أن كلفة العزاء مرتفعة، لكن ليس من السهل كسر التقاليد الاجتماعية. "في النهاية، نرضخ لرأي المجموعة والجماعة الأكبر، وأحياناً نحمّل أنفسنا أكثر مما تطيق حتى لا نتهم بالتقصير بحق الوالدة أو بالبخل".

من جهته، يؤكّد الأكاديمي والخبير الاجتماعي حسين الخزاعي، لـ "العربي الجديد"، ما قاله مواطنون عن ارتفاع كلفة إقامة العزاء. ويشير إلى أن هذه الكلفة هي نتاج سلوكيات اجتماعية خاطئة لم نعمل على تصحيحها. ويقول: "آن الأوان لنا كمجتمع متعلم التخلص من هذه العادات"، مضيفاً: "يجب أن يكون هناك رفض اجتماعي لها، والتخلص من بعض المفاهيم التي تعتبر عدم تقديم وجبات الطعام تقصيراً بحق الميت". ويشدد على ضرورة إخضاع العادات والتقاليد للتقييم، ويجب أن يكون هناك أشخاص مبادرون يواجهون المجتمع ولا ينقادون لانتقاداته التي تأتي في غير مكانها الصحيح". يضيف: "إذا أردنا القضاء على هذه المشكلة، على كل شخص المبادرة والبدء داخل عائلته"، مشيراً إلى أن هناك تقدماً في الآونة الأخيرة بعدما أصبحت بعض بيوت العزاء تفتح بعد العصر فقط وليس طوال اليوم كما في السابق، ومن دون تحديد وقت.

ويقول: "في التقييم الحقيقي، العزاء ليس تكريماً للميت، والكلفة الزائدة ليست وجاهة اجتماعية"، مشيراً إلى أن بعض العشائر أطلقت مبادرات للحد من الإسراف في مثل هذه المناسبات. ويرى الأمر خطوة جيدة، مشدداً على أهمية الالتزام بالمبادرات للتخفيف من المظاهر الاجتماعية المرهقة والمكلفة. وكانت جمعية حماية المستهلك قد أصدرت قبل ستة أشهر بياناً يطالب الفعاليات الشعبية والبرلمانية والحزبية بإقرار ميثاق شرف وطني من أجل التوقف عن البذخ والإسراف في مناسبات الأتراح، التي أصبحت ظاهرة سلبية يجب التصدي لها رحمة بالأسر ومراعاة لظروفها المعيشية الصعبة.



ويقول رئيس جمعيّة حماية المستهلك محمد عبيدات: "نسمع أينما ذهبنا شكاوى عدة من المواطنين حول كلفة المآدب الباذخة ذات الطابع الإجباري وبعضها يكون استعراضياً ويقام عند موت شخص. ومنذ سنوات، بدأت تنتشر لدى مجتمعاتنا بعض الممارسات والسلوكيات الباذخة بعد الدفن مباشرة، والتي تثقل كاهل أهل المتوفى"، مستهجناً قيام أهل الميت بتقديم الطعام لجميع الأفراد المعزين.

ودعت الجمعية المواطنين للابتعاد عن البذخ، والاكتفاء بتقديم المياه والقهوة العربية المرة، وتحديد مدة العزاء من بعد صلاة العصر إلى بعد صلاة العشاء ولمدة ثلاثة أيام فقط، سواء أكان ذلك في أماكن عزاء الرجال أو أماكن عزاء النساء. ويذكر أن بعض المواطنين شكلوا مجموعات عشائرية ومناطقية في ما بينهم، وأنشأوا صناديق تكافلية للمساعدة في التخفيف من العبء المالي بحق أفراد المجموعة، من خلال دفع مبلغ صغير شهرياً لهذه الصناديق التكافيلة لتوفير مستلزمات العزاء في حال الوفاة.