تضمّ "كنيسة الشعب" في الدنمارك 4.3 ملايين مؤمن، يمثّلون 74 في المائة من أهل البلاد، غير أنّ 18 في المائة منهم يرتادون الكنائس بانتظام و15 في المائة في المناسبات.
"اذكر يا إنسان أنّك من التراب وإلى التراب تعود". لا يبدو أنّ الدنماركيين يذكرون ذلك، بحسب ما تقتضي التعاليم المسيحية، أو هذا على أقلّ تقدير ما تخلص إليه دراسة بحثية حول القيم الدنماركية أعدّها "المعهد الدنماركي للدراسات القيمية والاجتماعية" ونشرت وكالة الأنباء الدنماركية نتائجها الجزئية، قبل صدورها كاملة في نهاية مايو/أيار الجاري.
والنتائج التي أتت لتمثّل مفاجأة لـ"كنيسة الشعب"، مثلما تُعرَف الكنيسة الدنماركية اللوثرية التي ينتمي إليها العدد الأكبر من المؤمنين المسيحيين في البلاد، بيّنت أنّ نحو 24 في المائة من الشعب الدنماركي باتوا يؤمنون بنظرية "تناسخ الأرواح" بعد الموت. وبحسب ما يشير الباحثون في تلك الدراسة، وفقاً لصحيفة "كريستليت داوبلاد" الدنماركية، فإنّ الذين يؤمنون بـ"وجود الجنّة والنار" إلى تراجع، على الرغم من احتفاظ الأغلبية (74 في المائة) منهم بعضويّتهم في الكنيسة التي تقدّم خدمات عدّة في سياق الزواج والميلاد والمعمودية والدفن وغيرها من الأمور. إلى جانب ذلك، تشير النتائج إلى ارتفاع في نسبة الذين يؤمنون بـ"النار" (جهنّم) من تسعة في المائة في عام 1980 إلى 10 في المائة في عام 2017، في حين أنّ نسبة المؤمنين بـ"الجنّة" تراجعت في الفترة الزمنية ذاتها من 20 في المائة إلى 19 في المائة.
مع الوقت، يحتلّ الإيمان بنظرية "تناسخ الأرواح" مكانة أكبر بين الدنماركيين، الأمر الذي يجده عالم الاجتماع الديني في جامعة آرهوس، هينريك كريستنسن، أمراً نموذجياً يتعلق بالأزمنة التي يعيش فيها البشر. ويقول: "نحن نعيش في وقت تتسارع فيه الأشياء، والبشر يعيشون حالة هوس تقريباً بعدم تفويتهم أيّ شيء في الحياة، نظراً إلى أنّ ما لدينا هو فرصة واحدة في حياتنا". وتبدو فكرة تناسخ الأرواح بالنسبة إلى هذا الباحث "مسألة مريحة؛ إذ إنّ الفكرة تمنحنا شعوراً بأننا سوف نحظى بفرصة أخرى لاحقاً". من جهته، يرى أستاذ الفلسفة الفخري في كلية الأعمال في كوبنهاغن، أولى ثوسن، في حديث إلى وكالة الأنباء الدنماركية، "عدم وجوب أخذ نتائج هذا البحث جدياً، بحرفيّته، فأنا أظنّ أنّ الأمر ليس جذرياً تماماً". وعن تزايد نسبة المؤمنين بتناسخ الأرواح بعد الموت، يقول ثوسن: "تخميني أنّ القضية ترتبط باتخاذ موقف متباعد عن المسيحية التي لم تستطع إيقاظ قدر كاف من الحماسة لدى الناس".
وتذهب صحيفة "كريستليت داوبلاد" إلى أنّ الدنماركيين استحضروا نظرية تناسخ الأرواح من "ثقافات شرقية غير مسيحية تؤمن بأنّ الأرواح تولد بعد الموت في هيئة جديدة". ويؤكد كريستنسن أنّ "فكرة تناسخ الأرواح ليست جديدة في اقتحامها يوميات الدنماركيين، فهي بدأت مع ثورة الشباب في عام 1968 ضدّ مجمل السلطات والتسلّط، بما فيها سلطة الكنيسة"، عندما فضّل الناس عدم البقاء في إطار الإيمان الأوحد (...) لهذا تأثّر البعض بأفكار من ديانات هندية واستلهم منها إلى جانب طرق تفكير مختلفة". يضيف كريستنسن أنّ "ثمّة اختلافاً بين نظرية تناسخ الأرواح في الديانات الشرقية وإيمان تلك النسبة من الدنماركيين (24 في المائة) الذين تبنّوها. هم يتبنّون فقط الجزء الإيجابي المتعلق بأهداف الحياة، لجهة إمكانية تحقيق الكثير منها".
بالنسبة إلى ثوسن، فإنّ إيمان دنماركيين بتناسخ الأرواح "مرتبط بما تقدّمه الديانات الشرقية من تجارب دينية قويّة ليست متوفرة في كنيسة الشعب (...) في حين يصعب عليك العثور على قسّ مسيحي واحد يتخلّى عمّا تقوله التعاليم الإنجيلية بصرامة. والكنيسة تعيش في الواقع رتابة تُعَدّ ضامناً لقيم برجوازية أكثر من القيم الشعبية العامة". ويؤكّد ثوسن أنّ "نظرية تناسخ الأرواح سوف تجد طريقاً لها أكثر فأكثر (بين الدنماركيين)، طالما أنّ الكنيسة (في الدنمارك) لم تعد تثير حماسة الكثيرين واهتمامهم".
ويعبّر رجال دين كثر في الدنمارك عن قلقهم من تراجع نسبة الملتحقين بكنيسة الشعب (الكنيسة الدنماركية اللوثرية)، خصوصاً أنّ الأرقام الرسمية الصادرة عن مركز الإحصاء الدنماركي، في فبراير/شباط الماضي، تفيد بتراجع سنويّ مستمر. ففي حين كانت النسبة 89 في المائة في عام 1990 فقد تراجعت أخيراً إلى 74 في المائة. يُذكر أنّ علاقة الدنماركيين بالدين تبقى "علاقة خاصة" يصعب أن تظهر في المجال العام، إذ إنّهم يستبعدون أيّ نقاش عن الدين أو توجّهات الكنيسة والأفراد، من المجالس الخاصة والعامة في غالب الأحيان. وفي حين يُسجّل تراجع مع الوقت في عدد مرتادي الكنائس، خصوصاً في كبريات المدن، فإنّ الكنيسة تبقى في بعض الأرياف، خصوصاً في أقصى شمال غرب البلاد، ذات مكانة ودور.
في سياق متّصل، فإنّ نسبة المؤمنين بالحياة بعد الموت، بحسب دراسة "المعهد الدنماركي للدراسات القيمية والاجتماعية"، تتجاوز 39 في المائة. وبحسب القائمين على كاتدرائية آرهوس (أكبر كاتدرائية في البلد)، فإنّ مسألة "الحياة بعد الموت صارت غير واضحة مع مرور السنين، في كنيسة الشعب. فنحن نقول عادة إنّ الموت بيد الرب، وهذه الصياغة بالنسبة إليّ تحمل الكثير من دون أن تعني الكثير لمن ليسوا علماء دين. هي صيغة معقّدة بعض الشيء تدفع كثيرين إلى التنصّل منها أو الالتزام بها، الأمر الذي يعني أنّه علينا القيام بالكثير لجعل الصياغة أقلّ تجريداً وأقرب إلى الناس".