قبل أسابيع من الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان، في مايو/ أيّار من عام 2018، رُفعت صورة أحد المرشّحين عند أحد مداخل طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، مذيّلة بعبارة "هيك بلد بدّو هيك زعيم". آنذاك، علّق أحدهم عليها قائلاً: "من الصعب أن نعرف إذا كانت هذه العبارة إطراءً أم مذمّةً. هل رفعها مناصرو هذا الزعيم أم خصومه استهزاءً به؟". فالبلد كان يومها غارقاً في اليأس والإحباط والتجييش الطائفي وكذلك السياسي الرخيصَين، كما الحال منذ سنوات عديدة. وبعد تلك الانتخابات، استُبدلت الصورة بأخرى لزعيم آخر يظهر فيها متحدثاً عبر الهاتف، مذيّلة بعبارة "ألو، مين معي؟ كلنا معك!".
اليوم، هذه المدينة تماماً كما هذا البلد لا يريدان زعماء كهؤلاء، والدليل على ذلك أنّ طرابلس عمدت منذ اليوم الأوّل من انتفاضتها إلى نزع صور السياسيين المرفوعة في محيط ساحة عبد الحميد كرامي أو "ساحة النور" حيث تجتمع حشود المحتجّين. واليوم، الخميس في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني، راح مواطنون محتجّون يزيلون مزيداً من صور الزعماء، في تحرّك عفوي لم يُعرف حتى الساعة من يقف خلفه. ويؤكد الشبّان والشابات المشاركون في المسيرة التي انطلقت من "ساحة النور" نحو الأحياء الشعبية حيث تكثر الصور من أجل نزعها، أنّ أجمل ما في هذا التحرّك أنّهم لا يعرفون هويّة من دعا إليه.
والمتظاهرون المشاركون في هذه المبادرة يعرفون مدى حساسيتها، فلتلك الصور أصحاب وقّعوا أسماءهم تحتها وهم إمّا سدّدوا بدلاً لرفعها أو تقاضوا ثمناً في مقابل ذلك. واللافت في طرابلس أنّ العدد الأكبر من أصحاب الصور يتلقّون أجوراً شهرية من قبل الزعيم الذي يظهر في الصورة. بالتالي، يدرك المتظاهرون أنّ إزالة بعض تلك الصور في المدينة هي بمثابة قطع أرزاق بعض الأشخاص، خصوصاً "قادة المحاور" الذين يتفنّنون في رفع الصور وابتكار الشعارات فيما تبقى عيونهم صاحية لحراستها.
بلال الجمل (22 عاماً)، من الشبّان الذين شاركوا في التحرّك، يقول لـ"العربي الجديد"، إنّ "طرابلس تمكّنت من كسر هالة القداسة والألوهية التي أقامها الأهالي للزعامات من خلال الانتفاضة التي شهدتها ساحة النور"، مؤكداً أنّه "لا بدّ من ترجمة كسر تلك الهالة بطريقة محسوسة من خلال إزالة صور الزعماء التي تملأ المدينة، بحسب قاعدة كلّن يعني كلّن (كلّهم يعني كلّهم)، خصوصاً أنّ الصور العملاقة تشكّل غالباً غطاءً لمخالفات وتعديّات على الأملاك العامة". بالنسبة إلى الجمل، فإنّ مثل هذه الخطوة "تحرّر الطرابلسيين من سلطة الزعماء، ومن سلطة قادة المحاور الذين يشاركون زعامات طرابلس مسؤولية اندلاع أكثر من عشرين جولة عنف في قلب المدينة في خلال السنوات الماضية".
في شوارع المدينة، كانت مجموعة من الشبّان والشابات تهتف ضدّ الطائفية وضدّ الحكّام وضدّ الفساد، فيما يدعو أحدهم الأهالي إلى الانضمام إليهم في مبادرتهم تلك. يصرخ "شيلو صور وحطّو علام" (أزيلوا صوراً وضعوا أعلاماً)، ويردّ المتظاهرون من بعده. وما أن يتوقّف عند صورة مرفوعة على دوّار أو على عمود كهرباء، يسارع إلى إبلاغ الموجودين بأنّ المجموعة تنوي إزالتها بشكل سلميّ من أجل تنظيف طرابلس من صور الزعامات، ويطلب من صاحب الصورة نزعها. وفي حال لم يظهر صاحب الصورة، يبادر أحد الشبّان إلى نزعها بنفسه واستبدالها بالعلم اللبناني.
وتحرص المجموعة على إزالة الصور المرفوعة على الأملاك العامة، فيما تمتنع عن الاقتراب من أيّ صورة على مبنى سكني أو تجاري باعتبار تلك الأملاك خاصة، وبالتالي لا يشكّل رفع الصور عليها مخالفة قانونية. والمبادرة لا تهدف إلى نزع كلّ الصور من المدينة، نظراً إلى ضعف إمكانياتها، لكنّها تكتفي بالتحرّك الرمزي ريثما يبادر كلّ طرابلسي إلى إزالة صورة كان قد رفعها. من جهتها، تقول جنى حلواني (19 عاماً)، لـ"العربي الجديد"، إنّ "إزالة صور السياسيين هي الترجمة الفعلية لشعار الثورة كلّن يعني كلّن". تضيف: "طالما أنّ الصور مرفوعة، فهذا يعني أنّ البعض ما زال يستثني زعيمه من هذا الشعار"، لافتة إلى أنّ "ما هو أصعب من إزالة الصور يقضي بتغيير العقلية التي دفعت الطرابلسيين إلى رفع الصور. لكنّ الخطوة هذه تُعَدّ إيجابية نحو التغيير".
في أحد الأحياء الشعبية الأكثر فقراً، تُرفَع صورة زعيم سياسيّ كُتب فوقها "كلّ مين بيعرف شغلو (عمله)". هذه ربّما العبارة الوحيدة التي ما زالت صالحة منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم وحتى اليوم. فالثورة كذلك تعرف "شغلها" وتعرف كيف تحاسب كلّ من يؤدّي عمله على أكمل وجه.