مع بداية عام 2020، لا بدّ من الالتفات إلى العام الذي أفل والذي طبعته في الجزائر هتافات "يتنحاو قاع"، أي "تنحّوا جميعاً". فالمنتفضون الجزائريون نجحوا في إعلاء الصوت ودخلوا التاريخ من بابه الواسع.
بدا عام 2019 المنصرم عام الشارع الجزائري بامتياز، إذ إنّ الجزائريين خرجوا في 45 يوم جمعة، في مسيرات وتظاهرات تنوّعت مطالبها منذ بدء الحراك الشعبي في 22 فبراير/شباط الماضي. وقد أدّى غليان الشارع الجزائري لمدّة 40 يوماً إلى حمل الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على تسليم مفتاح قصر المرادية والاستقالة في الثاني من إبريل/نيسان الماضي قبل انتهاء ولايته الرئاسية الرابعة وبعد 20 عاماً من الحكم، وسط ضغط شعبي منقطع النظير، تحت شعار "الشعب لا يريد الخامسة". فالإصرار كان كبيراً على عدم رغبة الشعب في استمرار الرئيس بوتفليقة في الحكم والذهاب إلى ولاية رئاسية خامسة.
تواترت الأحداث واستمرّ الشارع في ثباته. ويقول الطالب في كلية الحقوق والعلوم القانونية عماد الدين بلحوت، لـ"العربي الجديد"، إنّ مسيرات الجمعة وكذلك مسيرات الثلاثاء تحت شعار "ثلاثاء الطلبة" مستمرّة، مؤكداً أنّها "جمعت المتعاطفين والغيورين على البلاد، وفي الأخير أسفرت عن بدء محاكمات رموز الفساد من كبار المسؤولين في الدولة الجزائرية، بالإضافة إلى انتخابات الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول المنصرم". بالنسبة إلى بلحوت، فإنّ "ما حصل عليه الحراك حتى الآن هو تماسكه، على الرغم من اختلافات بين المشاركين فيه وعدم توافق كثيرين إلا على هدف واحد هو تغيير المنظومة والذهنية اللتَين حكمتا الجزائريين طويلاً".
ولعلّ أبرز اللحظات الثورية هي التي أحدثها المنتفضون عبر شعاراتهم، مع استدعاء رموز ثورة التحرير، وإحياء أسماء من التاريخ، وحفظ ذاكرة الذين ساهموا في صناعة تاريخ البلاد. فرُفعت صور الثوريين ورُوّج لأسماء شوارع تخلّد شهداء ثورة التحرير (1954-1962) وأُطلقت النقاشات في الميادين بمختلف الولايات الجزائرية التي برز فيها الرأي والرأي الآخر، فأتت حادة، إلى جانب هتافات رُفعت من مختلف مكوّنات الحراك الشعبي السياسية والشعبية. يُذكر أنّ الساحات التي تحمل أسماء شهداء ثورة التحرير حظيت بتداول كبير في أحاديث الجزائريين في مختلف الولايات الجزائرية. كذلك، نالت ساحات "الشهداء" النصيب الأكبر، سواء في ولاية الجزائر أو عنابة أو قسنطينة أو برج بوعريريج أو تيزي وزو أو بجاية أو غرداية وغيرها.
واللافت أنّ العالم، ومن خلال ما سُرّب من صور وتسجيلات للمسيرات عبر قنوات التلفزة والعالم الافتراضي لا سيّما وسائل التواصل الاجتماعي، تمكّن من التعرّف على رموز تاريخيين في الجزائر. ويقول الطالب في كلية العلوم التكنولوجية بجامعة باب الزوار في العاصمة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "كثيرين باتوا يعرفون من هي الشهيدة حسيبة بن بوعلي والشهيد العربي بن مهيدي والشهيد ديدوش مراد وصديق الثورة الجزائرية موريس أودان. كذلك صاروا يعرِفون قصور الشعب والمحجّ الأسبوعي للمنتفضين. والعالم كلّه حبس أنفاسه وهو يشاهد الملايين يخرجون في كلّ يوم جمعة". تجدر الإشارة إلى أنّ طلاباً رسموا في سياق متصل جداريات تحت شعار "الشعب هو المنتصر" وخطّوا كتابات على الجدران تنقل مطالب الحالمين بالحرية والتعبير الحرّ عن الرأي وبالشغل والسكن وغيرها من المطالب التي تغيّرت طيلة العام المنصرم.
في هذا الإطار، يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي وحيد لوكال لـ"العربي الجديد" إنّ "الشارع الجزائري هذه المرّة قدّم للسلطة أربع حقائق لا يمكن التشكيك فيها: الأولى أنّ الشعب يملك مفتاح كلّ باب لإحداث التغيير المنشود، ولو قطرة قطرة مثلما يردّد بعض المراقبين من خلال قراءاتهم للحراك الشعبي الجزائري، مؤكدين أنّ في إمكانه التحرّك في أيّ لحظة فارقة وإحداث التغيير من خلال الوعي نفسه الذي ترجمه الشباب وطلاب الجامعات ومختلف مكوّنات الحراك الشعبي باختلاف توجهاتهم". يضيف لوكال أنّ "الحقيقة الثانية هي أنّ السلطة لم تعد قادرة على تجاهل غضب الشعب والاستخفاف بالشارع الجزائري، بعدما عرفت إمكانيته في الدفع نحو التغيير، وهو ما حدث عند استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، مع استمرار الضغط ومطالب رحيل الحكومة، على الرغم من رحيل رأس الهرم في السلطة الجزائرية. أمّا الحقيقة الثالثة فهي أنّ الوافد الجديد إلى قصر المرادية، الرئيس عبد المجيد تبون، ومن في فلكه، وكذلك الحكومة المنتظر تأليفها لاحقاً، عليهم جميعاً إدراك أنّ مرحلة ما بعد بوتفليقة بآمالها وفرصها المتاحة للتغيير تحمل مخاطر وتحديات موسومة في الجانبَين الاجتماعي والاقتصادي. فالملايين لديهم انتظارات وتحديات متمركزة في شتّى القطاعات". ويتابع أنّ "الحقيقة الرابعة هي أنّه لا بدّ للقوى السياسية الموجودة في الساحة أن تفهم أنّ عهد أحزاب السلطة قد ولّى. فالتجربة أثبتت بعد 20 عاماً أنّ حبل البهتان قصير مهما طال، بالتالي عليها التأكّد من أنّه لا مجال للخطأ ولا خيار أمامها سوى إنقاذ سفينة الشارع الجزائري وتوجيهها نحو التنمية والاستفادة من دروس الحرية ومن مناخ جديد تعرفه الجزائر".